بعد فوز مرشح اليمين القومي توميسلاف نيكوليتش في الانتخابات الرئاسية الصربية التي أُجريت يوم 20/5/2012 بفارق بسيط عن بوريس تاديتش الرئيس السابق، نالت الحكومة الصربية الجديدة برئاسة إيفيتسا داتشيتش غالبية مريحة في البرلمان الذي يسيطر عليه اليمين القومي يوم الجمعة 27/7/2012، حيث صوّت لمصلحتها 142 نائباً من أصل 214 من الحضور بينما صوّت ضدها 72 فقط. وكان الرئيس نيكوليتش قد أثار غضب بعض الدول المجاورة عندما صرّح بأن ما حدث في سربرنيتسا في تموز يوليو 1995"ليس بمجزرة"وأن فوكوفار الكرواتية"مدينة صربية"الخ... وهو ما دفع رؤساء الدول المجاورة سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة الى مقاطعة حفل التنصيب الرسمي لنيكوليتش في 12 حزيران يونيو الماضي. وفي المقابل، فاجأ نيكوليتش من حضر من الضيوف حفل تنصيبه بأن القسم الذي أدّاه بمناسبة توليه رئاسة الدولة قد تضمّن قوله:"سأحمي الدستور وأحافظ على الوحدة الترابية لصربيا"، لأن الدستور الصربي الموروث من أيام اليمين القومي ينص على أن"كوسوفو جزء لا يتجزأ من صربيا". تجدر الاشارة الى أن نيكوليتش برز في العام 1991 حين أسّس مع فيويسلاف شيشل"الحزب الراديكالي الصربي"الذي له سجل أسود في حرب البوسنة وكوسوفو ويحاكم رئيسه شيشل الآن في لاهاي على جرائم الحرب التي ارتكبها، وشغل منصب نائب رئيس الحزب ومثّله في الحكومة التي كان يهيمن عليها حزب سلوبودان ميلوشيفيتش الحزب الاشتراكي الصربي خلال 1999- 2000، حيث شغل آنذاك منصب نائب رئيس الحكومة. ولكن نيكوليتش اختلف مع شيشل لاحقاً حول"الخيار الاوروبي"لصربيا وأسّس في 2008 الحزب الجديد"حزب التقدم الصربي"الذي"تقدّم"في الانتخابات البرلمانية الاخيرة التي أُجريت في أيار مايو الماضي. وكان"الحزب الاشتراكي الصربي"قد قام بنقد ذاتي بعد اعتقال ميلوشيفيتش وموته 2006 وقدّم اعتذاراً للشعب الصربي عن أخطائه في الماضي وانتخب ايفيتسا داشيتش الشاب ليقوده في المرحلة الجديدة. ودخل داشيتش بعد انتخابات 2008 في حكومة ائتلافية مع عدو ميلوشيفيتش الحزب الديمووقراطي الذي يرأسه بوريس تاديتش شغل فيها منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية، وهي الحكومة التي أخرجت صربيا من عزلتها وأوصلتها الى بوابة الاتحاد الاوروبي بعدما حصلت على وضعية"دولة مرشحة". وبسبب هذا النجاح، اتفق الحزبان الديموقراطي والاشتراكي الصربي على خوض الانتخابات البرلمانية الجديدة معاً وتشكيل حكومة ائتلافية لاستكمال ما بقي لانضمام صربيا الى الاتحاد الاوروبي. ومع أن تاديتش خسر الانتخابات الرئاسية بفارق بسيط حوالى 2 في المئة، إلا أنه فاز مع حليفه داتشيتش في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في اليوم نفسه حيث حصل تحالفهما على 111 مقعداً في البرلمان الذي يتكون من 250 مقعداً. وبذلك فقد كان نيكوليتش مضطراً وفق الاصول الى تكليف تاديتش بتشكيل الحكومة الصربية الجديدة، إلا أنه فشل في ذلك سواء بسبب"نظرية المؤامرة"المتأصلة في صربيا التي تقول ان الغرب أراد أن يعاقبه كما عاقب من قبله سلوبودان ميلوشيفيتش وخلفه فويسلاف كوشتونيتسا لتردده في التوصل الى حل سياسي مع كوسوفو جريدة"داناس"5/7/2012، أو لأنّ داتشيتش أصبح يرغب بمنصب رئيس الحكومة لأن حزبه الصغير الاشتراكي الصربي ضاعف عدد مقاعده في البرلمان الى 44 مقعداً وأصبح بذلك الحزب الثالث في صربيا بعد حزب التقدم والحزب الديموقراطي. عودة التسعينات نتيجة لذلك، اعتذر تاديتش وانهار التحالف بين الحزب الديموقراطي والحزب الاشتراكي الصربي ليفسح في المجال للرئيس الصربي أن يكلّف رئيس الحزب الذي كان متحالفاً معه في عهد ميلوشيفيتش بتشكيل الحكومة. ومع أن هذا الخيار أعاد فوراً الى الاذهان فترة تسعينات القرن المنصرم، إلا أن رئيس الحكومة المكلّف إيفيتسا داتشيتش لم يشأ أن تقتصر الحكومة على الحزبين القوميين حزب التقدم الصربي والحزب الاشتراكي الصربي، بل حاول أن يوسعها لتمثيل المسلمين فيها وليؤكد ما صرّح به من ان"لا عودة الى التسعينات". ضمّت الحكومة بالإضافة الى الحزبين الرئيسين أحزاب:"أقاليم صربيا الموحدة"و"الحزب الاشتراكي الديموقراطي"و"حزب العمل الديمقراطي"، علماً أن الحزبين الاخيرين يمثلان البشناق أو اقليم السنجق في جنوب غربي صربيا. ومع هذه التركيبة، أمكن الحكومة أن تحظى بغالبية مريحة في البرلمان 142 من أصل 214. ويلاحظ ان داتشيتش احتفظ لنفسه أيضاً بوزارة الداخلية، بينما أصبحت الخارجية للديبلوماسي المحترف ايفان مركيتش، بعد أن انتخب وزير الخارجية السابق فوك يرميتش رئيساً للجمعية العامة للامم المتحدة، وضمّ وزيرتين فقط من أصل 17 زورانا ميخالوفيتش للطاقة وفريتسا كالانوفيتش للادارة المحلية، اضافة الى مسلمين مخضرمين: راسم لياليتش للتجارة والمواصلات وسليمان اوغليانين وزير دولة. وبالاضافة الى ذلك، فقد ألحق داتشيتش برئاسة الحكومة أربع ادارات: كوسوفو، الاديان، المغتربين وحقوق الانسان. وبالمقارنة مع السابق، فقد كانت كوسوفو تشغل وزارة دولة بحكم ان الدستور الصربي ينصّ على أن"كوسوفو جزء لا يتجزأ من صربيا"، كما أن الاديان كانت وزارة مستقلة حتى الآن، وهو ما أثار تحفظ بعض رجال الكنيسة الصربية التي تتمتع بنفوذ كبير في المجتمع. في المقابل، كان إصرار داتشيتش على تمثيل المسلمين في صربيا 2,5 في المئة من البشناق و 1 في المئة من الألبان بوزيرين من حزبين مختلفين راسم لياليتش رئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي وسليمان اوغليانين رئيس فرع حزب العمل الديموقراطي في السنجق لأنّ صربيا تشعر بالحاجة اليهما في العالم الاسلامي لإكمال ما تبقى من"معركة كوسوفو". وبالنسبة الى كوسوفو، وجهت الحكومة الجديدة رسالة غير مريحة الى الجوار، لأن نصّ قسم الوزراء تضمن ما يأتي:"أقسم أن أمارس مهمتي بإخلاص ومسؤولية، وأن أخلص للحفاظ على كوسوفو ضمن جمهورية صربيا". في المقابل، يبدو ان كوسوفو تستعد لما هو آت. فقد أعلن قبل يومين من تشكيل الحكومة الصربية الجديدة عن تشكيل ائتلاف حكومي جديد في كوسوفو بعد إجازات الصيف يعود فيها طرفا"جيش تحرير كوسوفو"الحزب الديموقراطي برئاسة هاشم ثاتشي والتحالف لأجل كوسوفو برئاسة راموش خير الدين ليقودا الفترة المقبلة حتى انتخابات 2013 بعد أن ضعفت مكانة رئيس الحكومة الحالية بسبب قضايا الفساد والمشاكل التي تربطه بالأحزاب الصغيرة ذات المطالب الكبيرة ولكي يواجه خصمه الكبير"الرابطة الديموقراطية"التي أسسها ابراهيم روغوفا وقادت كوسوفو حتى 2007 في الانتخابات المقبلة. وإذا كان هاشم ثاتشي هو من أعلن"الاستقلال المشروط"في 17/2/2008، فإنه يستعد الآن للرد على التغيرات الجديدة في بلغراد بإعلان"الاستقلال الكامل"في الخريف المقبل. فقد كان ثاتشي قد أعلن الاستقلال وفق خطة المبعوث الدولي أهتيساري التي أوصت ب"الاستقلال المشروط"، وجاء دستور كوسوفو في 2008 والقوانين النابعة منه خلال 2008-2012 لكي تأخذ ذلك في الاعتبار. أما الآن فقد بدأ البرلمان الكوسوفي في مراجعة القوانين حيث أقر في أواخر حزيران أي بعد انتخاب نيكوللتش تعديل 21 قانوناً لكي تنسجم مع"الاستقلال الكامل"الذي سيعلن في الخريف المقبل. الاتحاد الاوروبي حرص على أن يرسل ممثلاً عنه مفوض توسيع الاتحاد الى حفل تنصيب الرئيس الصربي الجديد توميسلاف نيكوليتش الذي قاطعه رؤساء الدول المجاورة ليعطي رسالة بأن أبواب بروكسل لا تزال مفتوحة مع التشديد على الشروط التي تفضي الى حل سياسي بين صربيا وكوسوفو وقف تمويل المؤسسات الصربية في جيب متروفيتسا وفتح مكتب تمثيلي لصربيا في بريشتينا ولقاء على مستوى القمة في بروكسل، في الوقت الذي يشدد فيه الاتحاد الاوروبي ضغوطه على هاشم ثاتشي للقبول بنوع من الحكم الذاتي لجيب متروفيتسا. وليس من المستبعد أن يتمكّن اليمين القومي الذي قاد صربيا في تسعينات القرن العشرين الى"حرب كوسوفو"1999 من أن يتوصل الى حل سياسي مع عدوه السابق جيش تحرير كوسوفو بعد أن يشكل طرفاه حكومة قوية في الخريف المقبل، وأن يسبق ذلك لقاء على مستوى القمة بين الرئيس الصربي نيكوليتش والرئيسة الكوسوفية عاطفة يحيى آغا، التي كانت قد صرحت قبل أيام بأنها لا تمانع بلقاء نيكوليتش"طالما أن هذا لمصلحة كوسوفو".أما ما عدا ذلك فتتكفل به"البلاغة القومية"لدى كلا الطرفين.