تيم روث من أبرز نجوم السينما الأميركية والأوروبية حالياً، وعلى رغم كونه قادماً من المسرح الكلاسيكي البريطاني، فهو لفت انتباه أكبر مخرجي هوليوود وأدى أدواراً قوية في أفلام دخلت سجل تاريخ الفن السابع في القرن العشرين، مثل"ريزرفوار دوغز"للسينمائي كوينتين تارانتينو، ثم"بالب فيكشن"للمخرج نفسه، والذي حقق أرقاماً قياسية في شباك التذاكر على المستوى العالمي، وحاز جائزة السعفة الذهبية في مهرجان"كان"للعام 1994، و"كوكب القردة"من إخراج تيم بورتون، و"الكل يقول أحبك"لوودي آلن وأفلام أخرى ناجحة، غير قيامه بخوض تجربة الإخراج عبر فيلم عنوانه"منطقة الحرب"، تناول فيه شراسة أب تجاه زوجته وأولاده، خصوصاً بناته. وفي فيلم"مكسورة"البريطاني، النازل قريباً إلى صالات السينما العالمية، يؤدي روث شخصية رجل يقيم في ضاحية لندنية فقيرة وتتعرض ابنته المراهقة لمعاملة قاسية من جيرانها، وإثر أحداث درامية معينة تمس الابنة، ينقلب هذا الرجل الهادئ إلى مدافع شرس عن عائلته، معرِّضاً حياته للخطر في سبيلها. حضر تيم روث إلى باريس من أجل أن يروج لفيلم"مكسورة"، فالتقته"الحياة"وحاورته: ما الذي جذبك في دور هذا الأب الذي يثور أمام الظلم الذي تتعرض له ابنته؟ - لقد تعجبت حينما تسلمت سيناريو الفيلم وقرأته، مكتشفاً أن الدور الذي كان المخرج روفوس نوريس قد اختارني من أجله هو الأب وليس الجار الشرير، ذلك أنني اعتدت عبر الأعوام تمثيل الشخصيات البغيضة التي تلعب بالأسلحة وتقتل، مثلما يلعب الصغار بالمسدسات المزيفة. وقد أعجبني دور الأب بطبيعة الحال، لأنه من النوع المثير للاهتمام بالنسبة إلى أيّ ممثل، ذلك أنه يتطلب أداء الهدوء المطلق وبرودة الأعصاب، بل نوعاً من الجبن طوال النصف الأول من الفيلم، ثم التحول فجأة إلى أسد جبار لا يتردد في مواجهة عدوه بكل الوسائل، ويبدي استعداده التام للقتل إذا تطلب الأمر ذلك. فهو لا يقدر على الاستمرار في تحمل رؤية ابنته تعيسة ومعرضة في شكل يومي إلى سوء معاملة الجار كلما خرجت من البيت. وهناك المثل الذي يقول"احذر الماء الساكن"، وأنا أرى أن هذا القول ينطبق مئة في المئة على شخصية الأب في فيلم"مكسورة". وعندما وجهت السؤال إلى المخرج في شأن السبب الذي دفع به إلى تقديم هذا الدور لي بدلاً من شخصية الجار مثلاً، ردَّ علي بمنتهى البساطة، قائلاً:"لأنك ممثل، وبالتالي تقدر على تمثيل كل الأدوار". لم أسمع في حياتي جملة ناسبتني أكثر من هذه، وإثرها وافقت على المشاركة في الفيلم من دون أي جدال، فنحن أهلَ التمثيل مثلُ الأطفال نلعب، وأنا أعشق مهنتي من أجل ذلك أساساً. ما هو تفسيرك في شأن توليك أدوار الشر في أكثر الأحيان؟ - إنني عاجز عن تقديم أي تفسير في خصوص هذا الموضوع، والأجدر توجيه السؤال إلى المخرجين الذين يختارونني من أجل هذا النوع من الشخصيات. إن ما سمعته من فم بعض الأشخاص هو أن تعبيرات وجهي وملامحي توحي بالشر والخبث أكثر من العكس، لذا يتم استخدامي على هذا النحو. لكن رأيي الشخصي يختلف عن ذلك، فأنا مقتنع بأن أدائي الجيد لشخصية شريرة مرة أو مرتين في الأساس، أقنع أهل المهنة بأنني الشرير المثالي، وبالتالي صاروا يفكرون فيَّ كلما احتاجوا إلى مجرم أمام الكاميرا. هل تعجبك هذه الأدوار؟ - إذا كانت حلوة وقوية نعم، فالمهم هو أن يفيد الدور في جعل حبكة الفيلم أكثر إثارة بالنسبة الى المتفرج. أنا أفتش أولاً عن نوعية العمل الذي أشارك فيه، أما عن حكاية تمثيل الشر أو الخير، فهي ثانوية في نهاية الأمر. البطل المطلق أنت من الممثلين البريطانيين القادمين من مسرح شكسبير الكلاسيكي، فكيف تتأقلم مع الأوضاع السينمائية الهوليوودية الحديثة، خصوصاً المؤثرات التقنية التي تلعب دورها بالدرجة نفسها لأهمية الممثلين فوق الشاشة؟ - صحيح أنني مولع بالفن الكلاسيكي الدرامي، وإلا لما احترفت التمثيل، وأهم ما يحمسني في مهنتي هو إمكانية التنويع في الأدوار، كما ذكرت للتو، وأيضاً في التجارب التي أعيشها مع المخرجين وزملائي من الممثلين. وأذكر على سبيل المثال، عملي في مواجهة النجم الهوليوودي إدوارد نورتون في"هالك العجيب"، فقد اكتشفت من خلال عملي في هذا الفيلم الأسلوب الطريف الذي يتميز به نورتون، في إدارة مخرج الفيلم بدلاً من العكس، وذلك لأن نورتون كان البطل المطلق للفيلم، وبالتالي لم يقبل أي تعليمات خارجية، فهو مثَّل دوره على طريقته من دون أن يبالي بما كان يفكر فيه المخرج. وكان على هذا الأخير أن يهتم بحركة الكاميرا والمؤثرات وسائر أبطال الفيلم -وأنا منهم- وحسب. ورغم هذه التصرفات المنافية لكل ما تعلمته في مشواري الفني من قبل، وجدت متعة كبيرة في العمل مع نورتون، وأيضاً مع المخرج لوي لوتيرييه، الذي خضع تماماً لأوامر بطله. إنها تجربة مثيرة عشتها، ولا شك في أنني سأستخدمها في شكل أو في آخر من خلال كتابة سيناريو أو نص مسرحي في يوم ما. وهل تمثل الشر فوق المسرح أيضاً، أم أنه تخصص سينمائي؟ - إنه سينمائي أولاً وأخيراً، فالمسرح يخضع لقواعد ثانية، بما أن ملامح الممثل لا تظهر بالنسبة الى الجمهور بالوضوح نفسه الناتج عن الكاميرا. أنا مثلت كل شيء فوق المسرح، الأب الحنون، الفارس الشجاع، رجل يعمل في فريق إطفاء، ملك... وخلاف ذلك من أدوار متنوعة. أنت أديت دور البطولة في فيلم"ألعاب مرحة"المخيف والجريء الذي أخرجه النمسوي مايكل هانيكي واعترضت عليه الرقابة الأميركية. فهل تعتبر نفسك أخطأت بقبولك هذا الدور؟ - لست نادماً بأي شكل من الأشكال على قبولي المشاركة في فيلم"ألعاب مرحة"، فهو فيلم معترف به وبقوته وعبقريته على الصعيد العالمي، وشارك في أكبر المناسبات السينمائية الدولية. أما عن الرقابة الأميركية، فهي متناقضة مع نفسها إلى أبعد حد، والفيلم لا يتضمن لقطة واحدة جريئة أكثر من اللازم. أنا أعيب على السينما الأميركية الحالية ميلَها الى العنصر التجاري البحت على حساب كل ما هو فني أصيل. وهذا ما يفرقها عن السينما الأوروبية عامة، سواء كانت فرنسية أو إنكليزية أو إيطالية. ولا أرى الرقابة الأميركية تحتج على العنف الذي يسود العدد الأكبر من الأفلام الهوليوودية في الزمن الحاضر، فما الذي دفع بها فجأة إلى الاعتراض على فيلم نمسوي؟ ربما هي خافت من المنافسة الخارجية تجاه السينما المحلية. ما رأيك في الممثلة الناشئة إيلويز لورانس، التي أدت دور البطولة النسائية أمامك في فيلم"مكسورة"؟ - إنها هائلة، ولذلك تم اختيارها من بين حوالى 500 ممثلة شابة مرشحة للدور. لقد تعجبت أمام قدرتها على استيعاب تفاصيل شخصية الفتاة التي لا بد لها من أن تقاوم العنف الخارجي الذي تتعرض له في شكل يومي، ثم أيضاً كيفية جلبها المزيد من الأفكار والاقتراحات الخاصة بالحالة النفسية التي تمر بها هذه الفتاة، نظراً الى الظروف الصعبة التي تحيط بها. واكتشفت في ما بعد أنها تغني، وأن صوتها عذب وجذاب، فهي فنانة متكاملة رغم انها لم تتجاوز سن الخامسة عشرة. ما هو مشروعك الجديد بعد"مكسورة"؟ - إنني عائد الى المسرح، مثلما أفعل بين كل فيلم وآخر تقريباً، وسأقف فوق الخشبة في لندن ثم في نيويورك طوال الموسم الشتوي المقبل. ماذا تفعل بالأموال الطائلة التي تتقاضاها لقاء عملك في هوليوود؟ - أستفيد من الأشياء الجميلة التي تحيط بي، مثل قطع الأثاث واللوحات والتماثيل والأحجار. فأنا مثلاً اقتنيت أخيراً قصراً في إنكلترا يعود إلى القرن الرابع عشر. ولولا المبالغ الطائلة التي أكسبها بفضل التمثيل السينمائي في هوليوود بالتحديد، لما استطعت أبداً تحويل هوايتي هذه إلى حقيقة. أنا أعشق جمع الأشياء القيمة، وهي مكلفة جداً. حدثنا عن تجربة عملك تحت إدارة السينمائي وودي آلن في فيلم"الكل يقول أحبك". - اكتشفت من خلال عملي في هذا الفيلم الأسلوب الطريف الذي يتميز به وودي آلن في إدارة ممثليه، بمعنى أنه يترك لهم مطلق الحرية في الارتجال أمام الكاميرا ولا يقيِّدهم بسيناريو محدد مكتوب أساساً في شكل دقيق. وأنا عادة أميل إلى متابعة النص المكتوب وأحب أن يديرني المخرج بطريقة جيدة وشديدة، وإلا شعرت بأن الفوضى تعمّ"بلاتوه"التصوير. ورغم هذه الأشياء، وجدت متعة كبيرة في العمل مع مخرج يتصرف بشكل معاكس كلياً لما اعتدته وأرتاح إليه، فقد تعلمت منه الكثير، واكتشفت في نفسي إمكانات كنت أجهلها تماماً، خصوصاً من ناحية القدرة على الارتجال. + وثائقي للمخرج اللبناني هادي زكاكپ "مرسيدس"... توثيق الذاكرة { بيروت ? محمد غندور في ثاني تجاربه الروائية الطويلة، قّدم المخرج المصري يسري نصرالله"مرسيدس"1993 وهو فيلم ناقش قضايا عدّة منها التغيرات السياسية والإدمان وتجارة المخدرات والتطرف الديني والشذوذ والفساد. عرض نصرالله آنذاك وجهة نظر خاصة بما يدور في مصر، أوائل تسعينات القرن الماضي، من خلال قصة شاب قضى فترة شبابه في مصحة عقلية، ليخرج ويكتشف التناقضات. لكن"مرسيدس"2011 للمخرج اللبناني هادي زكاك، تختلف كثيراً عن ذلك. أرادها أن تروي سيرة بلد، وتنبش الذاكرة الجماعية، وتفكك نسيج المجتمع اللبناني. في فيلمه الوثائقي 68 دقيقة، ينطلق زكاك من أواخر فترة خمسينات القرن الماضي، حين وصلت سيارة المرسيدس من ألمانيا لتستقر في لبنان، فتحوّل بعضها إلى سيارات أجرة، فيما اقتنتها فئة من الميسورين لأناقتها وفخامتها. جالت السيارة بسلام في المدن، وشهدت فترة الازدهار في الستينات، لكن بداية الحرب الأهلية 1975 خيّبت آمالها، فقصفت في الاجتياح الإسرائيلي 1982 وتعرضت للرصاص من قبل نيران عدوة وصديقة، ونقلت الجرحى والقتلى إلى المستشفيات تحت القصف. كما شهدت المرسيدس وقف إطلاق النار 1990، والانسحاب الإسرائيلي من جنوبلبنان 2000، وبكت على اغتيال الحريري 2005، واستشهدت في حرب تموز 2006. بعدما لمس زكاك التركيبة الطائفية في عمليْه"أصداء شيعية من لبنان"و"أصداء سنية من لبنان"، بحث عن شيء ما ، قادر على أن يخبر الحكاية، ولكن من دون سرد، بل من خلال الصورة فقط. استعان المخرج الشاب بالمرسيدس، بعدما رافقت تاريخ لبنان منذ نشأته، وعاصرت حروبه وآفاته ومشاكله. تأقلمت سريعاً مع العادات والتقاليد اللبنانية، ونسيت جذورها الألمانية، وتزيّنت بأمور تدل على طائفة السائق، وصور وشعارات مذهبية، كما راحت تمشي عكس السير، وتركن في أماكن غير مخصصة للوقوف. وحملت المرسيدس الطبقة الكادحة، وأوصلت المقاتلين لقتل شركائهم في الوطن، كما أقلت أمراء الحرب إلى كراسي البرلمان والوزارات. هذا النقد الشامل الذي يقدمه زكاك للوضع اللبناني من خلال الاستعانة بسيارة المرسيدس، محاولة لبناء ذاكرة جماعية للأجيال الجديدة، كما أنها محاولة للتصالح مع الماضي وفهمه، علّ الاستعادة تمنع حروباً مقبلة. ويحاكي زكاك الوضع العام من خلال هذه السيارة الألمانية، فالتي فقدت عيناً في الحرب أو أصيبت نجدها اليوم، لا تزال بلا عين، والتي خُطفت وفُجّرت، لا تزال تقبع مكانها. أما التي ساعدت في السرقة والنهب والقتل على الحواجز، فنجدها اليوم في أبهى حلة، مصفحة ضد الرصاص، نظيفة جداً ولا تستقلها إلا الطبقة الحاكمة. هذه المقاربة السينمائية، تفتح أفق التخيل للمشاهد لإسقاط الصور المناسبة على أي حدث أو فعل قام به أحد السياسيين بعد انتهاء الحرب. كما يقدّم زكاك موقفاً سوريالياً تدور أحداثه في العام 2020، حين يصبح لعائلة المرسيدس مجلس شيوخ، وينخرط أبناؤها في الأحزاب والطوائف اللبنانية. أعطى المخرج البطولة المطلقة لسيارة المرسيدس، لما تخزنه من قصص وروايات، ومشاركتها الدقيقة في تفاصيل الحياة اللبنانية. كما منحها بعض فترات الحب والسلام، من خلال مشاهد مركبة جمعتها بصديقاتها وكأنها تمثل حالات وفاق بين الطوائف. لم نسمع في الفيلم سرداً بشرياً، أراد المخرج معالجة الذاكرة اللبنانية الجماعية والفردية من زاوية مبتكرة. دخل إلى تفاصيل جديدة في التاريخ اللبناني من خلال سيارة، لا من خلال وجهة نظر مواطنين يتأثرون بفرضيات زعمائهم ورواياتهم. والتقط زكاك تفاصيل صغيرة زيّنت المرسيدس من عين زرقاء حامية من الحسد إلى شعارات دينية وكتب سماوية، وأوشحة سياسية وحزبية. وأراد المخرج القول من خلال هذا المشهد وبشكل غير مباشر، أن السيارة تجمع تناقضات المجتمع اللبناني، وتكشف أسراره، وتعرض الموروث الاجتماعي، والآراء السياسية المتضاربة. كما عرض صاحب"بيروت وجهة نظر"2000 مشاهد كانت فيها السيارة، عنصراً أساسياً كمشاركتها في عمليات البيع والشراء وعرض الخضروات والأسماك، والتهجير وحملات الدعم الانتخابي والتأييد الحزبي، والمشاركة في أعياد رسمية. ويستند الفيلم إلى عملية بحث هائل واضح في لملمته للتفاصيل، والعودة كثيراً إلى صور الأرشيف.