اثناء عطلة قصيرة قضيتها في بكين أخيراً، تنزهت في زواريب حي كيانمان، الوسط التجاري السابق، المشهور بحوانيته ودكاكينه الى اليوم، في انحاء الصين كلها. وانتبهت الى ان احدى طرقاته الكبيرة، طريق دازهلان، جُعلت نسخة عن بكين القديمة ومجسماً لها: فالواجهات لماعة وبراقة فوق ما هي الحال فعلاً، لكن السلع التي تعرضها الواجهات تقليدية ? من الجوارب القطنية والقبعات الى الأخلاط الطبية والحلوى. وعلى رغم قِدَمها البالي والمصطنع، حفظت المباني صيغتها الاصلية. ويتدافع الزبائن والسيّاح الآتون من ولايات الداخل على أبواب الحوانيت والدكاكين المليئة بهذا الصنف من السلع. مشيت في طريق كيانمان، وهي الشارع الرئيس الذي يصل جنوب ساحة تيانانمين ب"هيكل السماء"، وذرعتها جيئة وذهاباً وأنا حائر وضائع. فالبيوت القديمة على جهتي الطريق لم تكن على مقدار كبير من الجمال والاناقة، لكنها كانت تتمتع بأصالة لا تخطئها العين. والحق أنني لم أعثر على بقية بيت واحد فيها. وانتصب محلها شبهُها السينمائي المفترض، وهو كناية عن مبانٍ فاقعة الجدة، المبنى من طبقتين، أنشئت على مثال واحد، وغلفت بغلاف يقلد الحجر الرمادي الموروث. وتخيم على المشهد كآبة تنبعث ربما من شارات الشركات العالمية،"إتش اند إم"و"زارا"و"رولكس"، وهيمنتها على المكان. وحين انتهيت الى آخر الطريق استدرت فرأيت وراء المباني أرضاً مواتاً وخلاء ليس فيها غير انقاض الحوانيت وبقايا البيوت المبنية حول فناءات مربعة. وجُرفت شبكة الطرق والزواريب التي كانت إحدى أكثر حارات بكين سكاناً وحيوية. وكنت واقفاً على حالي هذه حين مرّ بي زوجان، الرجل يتكلم بلكنة بكينية حادة ويسأل المرأة عن اسم المكان، فتجيبه:"كيانمان"، فيقول:"مستحيل! كيف انتهى الحي الى هذه الحال؟". والجواب هو ما قام به كتاب صدر أخيراً بالصينية ونقل الى الانكليزية"حوليات بكين، تاريخ فيزيائي وسياسي لمصنع بكين الحديثة"وورلد سيانتيفيك بابليشينغ كومباني، 2011، كتبه جون وانغ، وهو صحافي يعمل منذ 1991 في وكالة"شينخوا"، ويكتب في أسبوعية تنشرها الوكالة الرسمية. وقد تبدو الوكالة ملجأ غريباً لصحافي مستقل الرأي، لكن موقعها في القلب من جهاز السلطة استدرج اليها صحافيي التحقيق والتقصي عن موضوعات يعلم الحزب الشيوعي الحاكم أن ليس في مستطاعه تجاهلها. وفي صدارة هذا الصنف من الموضوعات التنظيم المُدني. فمنذ عشرين سنة وخطط تجديد المدن الصينية وسكانها مدار اضطرابات ومنازعات اجتماعية لا تهدأ. وانضوى في حركات الاحتجاج، منذ نحو عشرين سنة، عشرات الآلاف من المواطنين الذين قاضوا الدولة وإداراتها وأجهزتها أمام المحاكم في عشرات من دعاوى المصادرة والاستملاك المتعسفيْن والاعتباطيين. ولم تجدِ إجراءات الدولة الرامية الى إبطال الدعاوى وحظر هذا الصنف من الاحتجاج والتنديد، فبقيت المسألة باعثاً حياً على هذين. وتعاظمت أسعار العقارات على نحو يتعذر معه على سواد الناس تملك شقة صغيرة في واحد من الأبراج الكثيرة المنتصبة في المجمعات البازغة كيفما اتفق في ضاحية بعيدة من أنحاء المدن. التقيت وانغ أواخر التسعينات، وكنت أعد كتاباً يعالج الاضطرابات الاجتماعية في الصين. وكان ينشر كل 3 أشهر أو أربعة ملفات تتناول سوابق المشكلات التي تشكو منها بكين اليوم. وعلى شاكلة الصحافي المستقيم والمحترف، شغله في المرتبة الاولى تعليل الحوادث الراهنة. وانتهى الى أن ثمة خللاً بنيوياً في سياسة انشاء المدن مصدره نهج الحزب الشيوعي التحديثي، ومثال التحديث الذي يسير عليه الحزب الحاكم. وكتابه، على رغم صنف الدراسات والابحاث الذي يدخل فيه، راج وطبع 9 طبعات، واتخذته حركة الدفاع عن التراث مرشداً ودليلاً. ولعل رواجه قرينة قوية على اعتناء السكان بتاريخهم المعماريي والاجتماعي. ويروي الكتاب، في شطر كبير منه، سيرة المعماري سيشينغ ليانغ وكفاحه في سبيل الحفاظ على تراث بكين وحمايته من هجوم الأسياد الشيوعيين الجدد، في الخمسينات، وتبديدهم الآمال التي علقها السكان عليهم أوائل عهدهم بهم وبحكمهم، وهو الحكم الاول المتماسك بعد قرن من الفوضى والتداعي. وليناغ كان، في شبابه، أحد المساهمين الناشطين في حركة التجديد الفكري في الصين. وهو ابن كيشاو ليانغ، أحد الاصلاحيين البارزين في عهد أسرة كينغ، ونصير الملكية الدستورية وحرية الصحافة وتحديث التربية وعصرنتها. وعلى مثال أبيه، درس سيشينغ في الخارج، ورجع الى الصين وفي جعبته التقنيات الحديثة التي حددت وصف الأنصاب التاريخية ونهج تأريخها. وبعض الكتب التي نشرها في ثلاثينات القرن العشرين كنز معلومات وأخبار ثمينة، ومصدر رسوم دقيقة لمبانٍ عريقة كان ليانغ أول من تصدى لوصفها وفهمها. وانتدبت حكومة تشانغ كايتشيك الى اللجنة الدولية التي تولت تصميم مبنى الاممالمتحدة في نيويورك. وحين هزم الشيوعيون الوطنيين، ولجأ هؤلاء الى تايوان، بقي ليانغ وزوجته الشاعرة المعروفة هويين لين، في"القارة"، ولم يترك الى"الجزيرة". وأمل الاثنان بانتهاج النظام الجديد سياسة معتدلة تخالف الأفكار المغالية التي نسبها خصومه اليه. وأشرك الزوجان، في بداية الامر، في تصميم الحي الذي يرمز الى الصين الجديدة، وجزء منه هو بوابة تيانانمين، المدخل الى المدينة المحظورة والموضع الذي أعلن منه ماوتسي تونغ الجمهورية الشعبية. وأشركا كذلك في تصميم نصب أبطال الشعب، في الساحة إياها. ولم يتأخر ظهور المصاعب والخلافات. فليانغ خالف دعاة دمج"بوابة السلام السماوي"في الحي الجديد، وسوغ رأيه بأن الدمج يحول المدينة القديمة قلب الصين ودماغها الاداريين. واقترح تشييد المباني الحكومية الى جهة الغرب حفاظاً على بكين القديمة. فشنّ عليه مخالفوه النافذون حملة تجريح. وقضى ذلك بإخفاق خطته، على ما شرح هونغ وو، الباحث الاميركي في الشؤون الصينية. فالغاية التي أراد القادة الشيوعيون بلوغها هي استئناف بناء المدينة بعد هدمها، ونقل قلبها من العرش الامبراطوري داخل المدينة المحظورة أو المحرّمة الى الفناء الذي يمتد امام"بوابة السلام السماوي". وترتب على هذا هدم عدد من الأنصاب، وشق محور ضخم من الشرق الى الغرب يبتدئ عند البوابة جادة شانغان، اليوم. وترتب عليه كذلك إسكان جهاز الدولة بين جدران المدينة القديمة من غير إنشاء حي جديد على حدة. الجامعي من هونغ كونغ، شانغ - تاي هونغ، يروي ان الخبراء السوفيات الذين أرسلتهم القيادة للمشورة أذهلهم جنون العظمة الذي أبداه زملاؤهم الصينيون ونازعهم الى الضخامة. وعلق ليانغ يومها على هذا النازع بقوله:"لن تنقضي 50 سنة قبل أن نندم على هذا الصنيع". وكان هدم هيكل الاحتفال بالعمر المديد كينشغوري من الخسائر الأليمة والموجعة. وسبق للمغول، حين بنوا عاصمتهم بكين الحالية، أن أظهروا الحرص على نقل أسوارها بعيداً من المدينة ذاتها حفاظاً على الهيكل البوذي ذي المنارتين والسِنامين. ولم يرَ الشيوعيون إلا اعتراضه محور الشرق ? الغرب العتيد. ولم يسع المعماري صنع شيء يحول بين مهندسي ماو وبين هدم الهيكل، في 1954. وآذن ذلك بتقهقر مكانة ليانغ، وغرقه في اليأس والاحباط. وغداة وفاة زوجته في 1955، نددت القيادة ب"يمينيته"، وحملته على"نقد ذاتي"جارح. ولم يعف عنه الحراس الحمر، اثناء الثورة الثقافية البروليتارية، فتعقبوه الى المستشفى، فقضى في 1972 وهو في السبعين من العمر. وإلى سيرة ليانغ، يروي وانغ تدمير أكبر بوابات بكين،"شيجيمين"البوابة المرفوعة الى الغرب، وتقطيع اوصال المباني، وردها الى هياكلها العظمية قبل هدمها وجرفها. وملاحظة الباحث البلجيكي في الشؤون الصينية، سيمون لِسْ، حول عجز المسؤولين الصينيين عن تسويغ هدمهم البوابات، تنبه الى إرادة ماو محو الماضي. كتب لِسْ:"لا ريب في ان اسم النظام الماوي لن ينفك من تذكر عدوانه على تراث الانسانية الثقافي، أي هدمه مدينة بكين". أما كيف جاز ذلك، فتعليله هو تشخيص الشيوعيين علة تأخر الصين وعجزها عن مباراة اليابان والدول الغربية في الماضي، الماضي كله بقضّه وقضيضه: باللغة والفن والعمارة والدين والسياسة والابنية العائلية واللباس والموسيقى... إلخ. وبكين هي صورة هذا الماضي الكريه. فكل سنتيمتر مربع من المدينة مجسَّم ماثل لنظام المعتقدات الصينية التقليدية، من مخططها الصادر عن جغرافيتها الاسطورية الى عشرات آلاف الدور المبنية حول صحن داخلي ظليل. ويذهب الباحث الاسترالي جيريمي بارميه الى ان بكين هي أحد اعظم الأنصاب التي أُنشئت في سبيل تمجيد حضارة عريقة. وفي ختام عهد ماو، على رغم أعمال الهدم الواسعة، بقي من المدينة ما يذكّر برسمها السابق. وحين حللتها مقيماً في 1984، كانت المدينة احتفظت بآلاف ال"هوتونغ"? أو الزواريب الضئيلة التي تقوم على جوانبها بيوت حول فناء مربع -، وكان أهلها يشبهون السكان الذين وصفهم الكاتب يوتوغ لي 1895 ? 1976 في ستينات القرن الماضي. كانوا يقضون اوقاتهم على نحو واحد، ويتكلمون اللهجة الحادة إياها. كانت المدينة خراباً، وانبعاثها من رمادها، مع طي صفحة الماوية، لم يكن ليبدو مستحيلاً. وتسويغ هدم المدينة القديمة بتحديث منتفعاتها المنزلية والصحية ليس تعليلاً وافياً لطرد الفقراء منها، وإخلائها للأغنياء، على خلاف سياسة تحديث المدن الاميركية التي هدمت اكواخها ومباني وسطها المتآكلة، من غير تهجير جميع أهلها. وقدر المعماري الاميركي، كامبانيلا، ان تحديث بكين قد يقتضي، على أقسى احتمال، إخلاء 180 ألفاً من فقرائها بيوتهم. و180 ألفاً هو عدد من اضطروا الى ترك بيوتهم في بكين عام 2003. ولم يسبق أن اخلى سكان مدينتهم، على مثال إخلاء بكين، في غير وقت الحرب أو خوفاً من زلزال كبير. يفاقم الأمر اضطلاع البلديات بأعباء اجتماعية لا طاقة لها على احتمالها من غير مخصصات السلطة المركزية. وتبلغ نفقات الإخلاء والإسكان 76 في المئة من الموازنات البلدية. والافتقار الى سلطة أهلية ومحلية نظير السلطة المركزية هو السبب في تنافر الاساليب المعماريية في بكين. فبعدما انقلب الحكم على"الشقيق"السوفياتي، ورجع الى الأسطح المنحنية التقليدية، وإلى القرميد، أوكل بعض المباني المُعلِمة، مثل مبنى شبكة تلفزيون CCTV او الملعب الاولمبي، الى رمْ كولهاس الهولندي وهرزوغ ودي مورون السويسري، وهما من أعلام الرأسمالية العالمية المأذونين. والفرق الكبير بين هذه الأنصاب وأنصاب الخمسينات يبطل توسل السلطة بهذه وتلك الى إرساء مشروعيتها على أنصاب معمارية ظاهرة وبراقة. * صحافي حائز جائزة بوليتزر وصاحب"مسجد في ميونيخ"، عن"نيويورك ريفيو اوف بوكس"الاميركية، 23/6/2012، اعداد م. ن. +