تقوم الصين، في إعدادها لدورة الألعاب الأولمبية التي تستضيفها بكين في 2008، بتجديد العاصمة، مضيفة الدورة والقرية الأولمبية. وليس مدرج ملعب كرة القدم والمسبح، وهما بين أول المنشآت الكبيرة، إلا جزءاً من بناء القرية. ويقع البناءان في منطقة مدينية شيّدت على مثال جديد. فبرزت مساحات خضراء وطرق مباشرة وسريعة، ومراكز تسوق، ومركز مالي، وشبكة نقل داخلية، معاً. ويقارن المراقبون الإعمار الأولمبي هذا بسابقتين هما تخطيط هوسمان باريس في عهد نابليون الثالث، والثلث الثالث من القرن التاسع عشر، وإنشاءات ألبرت سبير، معمار هتلر الأثير، في برلين غداة استيلاء الطاغية النازي على حكم ألمانيا في 1933. والسابقتان مثالان للتسلط الذي يُعمل مبضعه في جسم مدينة تاريخية كبيرة. ومن المصادفات أن ابن ألبير سبير هذا هو أحد المعماريين العاملين الألمان الذين يعملون في بكين. وعهدت إليه بلدية المدينة بتخطيط منطقة في وسط العاصمة الصينية طولها 8 كلم، من المدينة المحرمة أو المقدسة شمالاً إلى القرية الأولمبية جنوباً، ويذكر سبير الابن صفة التسلط والتعسف عن عمله. ويقول إن عمله لا يفعل غير الاقتداء على تقاليد العمارة المحلية،"الفينغ شوي"، والتحسين على هديها وفي ضوئها. وينهض برنامج الإعمار على أعمال هدم لا تحترم ما تقوضه وترميه أرضاً، وعلى أعمال بناء بحسب معايير جمالية واستعمال تخالف المعايير الصينية الموروثة. وفي معرض الهدم والبناء، وبينما يداهم الوقت الدولة المضيفة، ينحى من غير اعتبار ولا تردد معيار الموازنة بين البيئة وبين إلحاح النمو الاقتصادي. ويطرح معيار آخر تسعى الإدارة الصينية الشيوعية في التزامه، هو كبح الإنفاق الإنشائي، والتفاوت الكبير في الدخول الناجم عنه، وانتهاج سياسة توزيع أكثر عدالة. وبرنامج الإعمار الأولمبي يخالف المعيارين هذين. فهو ينفق إنفاقاً باذخاً على مدينة ثرية، ويدعو المحافظات الأخرى إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية تحتية ومبانٍ فخمة. وكانت وزارة الإعمار، في الأمس القريب، أمرت الإدارات المحلية بالإمساك عن تبديد مساحات الأرض النافلة في أعمال البناء، ودعتها إلى ترك استدراج المعماريين الأجانب ما لم تدع حاجة ملحة إليهم، وذلك حرصاً على التراث الصيني ودوامه وتطويره. والحق أن الدولة الصينية تنتهك أوامرها وخططها في الشأنين. وفي الأثناء، صمم المعمار الفرنسي بول أندرو دار الأوبرا الوطنية، والاسم الذائع والمتداول الذي يسميها أهل بكين به هو"بيضة البطة". وهو بناء بيضوي مصنوع من معدن التيتانيوم الأبيض القوي والخفيف، ويقوم غير بعيد من ساحة تيان أن مين. وصمم المعمار الهولندي ريم كولهاوس، مقر شبكة التلفزيون المركزية. وينهض المقر على برجين، البرج على شاكلة حرف اللام العربي، ويميل واحدهما نحو الآخر، ويلتقيان قريباً من قمة مشتركة تعلو 230 متراً ويسميه الأهالي"السروالين". وتقوم عمارات بول أندرو وريم كولهاوس وألبير سبير الابن ونورمان فوستر مصمم محطة مطار بكين الثالثة محل مدينة ماو تسي تونغ، الزعيم الشيوعي الذي دخل بكين في 1949، الصناعية. فالزعيم الشيوعي كان صمم، في ذهنه، مدينة تليق بالخيال الصناعي الشيوعي: مداخن عالية من الآجر والطين الأحمر تعلو بيوتاً من الإسمنت وسقوفاً تقليدية على مد النظر. وبعد عقود من"النمو"على هذه الشاكلة امتدت مدينة ملوثة وفوضوية وقبيحة. ويقتضي إنجاز البرنامج، قبل آب أغسطس العام الآتي، مد 6 خطوط لقطارات الأنفاق، وشبكة سكة حديد طولها 43 كلم، ومحطة حديد ثالثة، ومدرج طيران، و25 مليون م2 من المساحات المبنية. وتبلغ نفقات التشجير والتعشيب 12 بليون دولار. وصرف بعضها على حزام من الشجر حول بكين طوله 125 كلم. وصرف بعض آخر على حزام أخضر من الحدائق والملاعب الصغيرة زرع ورفع على أنقاض أحياء من الأبنية الواطئة والمتداعية بمحاذاة الطريق الدائري الشمالي. وبعض ثالث أقام حديقة أولمبية مساحتها 12 كلم2 في قلب المدينة. واقتضى ذلك فيما اقتضى من إجراءات باهظة إقفال بعض مرافق مصنع الحديد والفولاذ، وبعض أجزاء مصنع الفحم والمواد الكيماوية، وكانت مساحة المصنع هذا تبلغ 1.5 كلم2. ونقلت الأجزاء هذه إلى منطقة خارج منطقة بكين. وعلى هذا، لم يبق من مدينة قبلاي خان الامبراطوية، ونواتها كانت المدينة المحرمة والبوابات والأسوار التي تحوطها على شاكلة الشبك المستقيم، إلا القليل. وسبق ماو، وخبراؤه السوفيات، إلى هدم سور المدينة الكبير. ويريد قادة الصين الجدد، قادة الجيل الثالث، إنشاء مدينة دولية أو عالمية محل المدينة الإمبراطورية والإدارية. وفي هذا السبيل ارتضوا جرف الأحياء السكنية القديمة، وكانت على شاكلة متاهات، أو"هوتونغ"، أي أزقة متشابكة ومتداخلة، فلا يتخلص الزقاق من زقاق، ولا يمشي على هدى وبصيرة في الأزقة هذه من لم يألفها منذ طفولته. وكانت الأحياء قرى تربط بين أهلها روابط جوار وقرابة وإلفة وتاريخ منذ أجيال. وهدمت هذه القرى، وتفرّق أهلها. وحلت محلها مربعات تجارية، ومباني مكاتب، يخليها العاملون ليلاً، ويتركونها إلى مساكنهم. فالحكام، والمخططون، يميلون إلى مثال"الكتل المدينية المنفصلة والمتباعدة"، على مثال شاع في الغرب، في أثناء القرن الماضي. عن ميلندا لوو وجوناثان آنسفيلد ودانكين هيويت، "نيوزويك" الأميركية، 14/8/2007