قبل تسلمه الحكم كان عبدالملك بن مروان أحد أشهر خلفاء الأمويين معروفاً بتدينه وتقواه والتزامه العبادة والصلاة حتى وُصف بأنه حمامة المسجد. وعندما جاء خبر وفاة أبيه وانتقال الحكم إليه كان المصحف في حجره فأطبقه وقال قولته المشهورة:"هذا آخر العهد بك". في سنوات حكمه تحول عبدالملك من حمامة مسجد الى نمر سياسي، واصبح كائنا آخر. قد يُقال الكثير في تحليل وفهم تحول عبدالملك من طهورية النص الى واقعية السياق، لكن المهم هنا هو ان هذا التحول هو النمط العام وليس الاستثناء لانتقال البشر من مربع الايديولوجيا المثالية الى ارضية الواقع بكل تعقيداته ومساوماته. وليس جديداً القول بأن هذا النمط العام يخترق الثقافات والحضارات والايديولوجيات أياً كانت. هناك بطبيعة الحال درجات متفاوتة في التحول، بعضها جزئي وبعضها الآخر كلي ومدهش. وفي الوقت ذاته لا يعني ذلك ان البشر يتحولون الى"وحوش سياسية"عندما ينتقلون الى مربع السياسة الواقعية. المعنى المهم هنا والجوهري هو الانتقال من طور اليوتوبيا الخلاصية البحتة الى طور الواقعية العقلانية والبراغماتية. في اصطدام الايديولوجيا بالواقع عقب تسلمها زمام الامور والحكم هناك في المجمل العام اتجاهان يمكن رصدهما تاريخياً: الاول هو خضوع الايديولوجيا التدريجي للواقع واعادة انتاجها لذاتها بحيث تتواءم مع الواقع، بما يزيد من عقلنتها وبراغماتيتها، والثاني عناد الايديولوجيا ومناطحتها للواقع بغية تغييره جذرياً وإعادة قولبة الحياة وفق ما تراه. النمط الاول هو الاكثر تسيداً في تاريخ البشر لأنه الاقرب الى نبض الحياة، والنمط الثاني قاد الى اكثر الكوارث الانسانية والابادات الجماعية حين تصر الايديولوجيا على اعادة انتاج الحياة والبشر وفق ما ترى. النازية هي افضل وأبشع مثال دال على كيفية تحول الايديولوجيا التي تريد تغيير العالم الى اداة إبادة متوحشة. شيوعية ستالين اقتربت من النازية في محاولتها صهر شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي وقولبتهم اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وهي السياسة التي أسست للإنهيار الذي صار حتمياً في مستقبل التجربة السوفياتية. صورت رواية"مزرعة الحيوان"لجورج اورويل وبصورة مبهرة كيفية تحول الايديولوجيا الشيوعية على يد ستالين وبكل طروحاتها المثالية الى توحش حقيقي عندما لم تتصالح مع الواقع وحاولت اعادة تشكيله في القوالب الجاهزة للايديولوجيا. قريباً من ذلك كانت تجربة ماو تسي تونغ في الصين، والتي كادت تقود الى النهاية الكارثية نفسها للاتحاد السوفياتي. بيد ان ان الانقاذ الكبير تم بسبب عقلانية وبراغماتية"الحزب الشيوعي الصيني"الذي لم يتبقّ من شيوعيته سوى التسمية والوصف. على ذلك، إما ان تتواءم الايديولوجيا مع الواقع وتتواضع له وتحاول تحسينه تدريجاً، وإما ان تتحول الى كارثة عليه وعلى نفسها فتنهار هي وتعمل في الوقت ذات على تدمير الواقع الذي ارادت خدمته. الايديولوجيا عموماً تضع الحلم والمثال نصب عين اتباعها وتوفر لهم طاقة هائلة للحشد والعمل والنضال. لكن فور انتصارها وتسلمها الحكم تصطدم بأسقف الواقع فتعيد تشكيل نفسها وفق ما تكتشفه فيتسارع تعقلنها. في مرحلة فورانها واندفاعاتها العريضة لا تؤمن الايديولوجيا بالحلول الوسط، بل بصوابيتها المطلقة وضلال طروحات غيرها. ليس ثمة طيف ألوان عند الايديولوجيا المغلقة. هناك الاسود والابيض فقط، وينعدم الرمادي. في المقابل تقوم الواقعية العقلانية والبراغماتية على الحلول الوسط والمساومات وطيف واسع من الالوان، يقع الرمادي في قلبها ويحتل المساحة الاعرض منها. الايديولوجيا تطرح حلا حاسما واحدا لكل معضلات المجتمع والبلدان والكون والحياة والوجود، وهو في العادة يكون حلا خلاصياً يسترذل الحلول الاخرى. الواقعية العقلانية والبراغماتية تطرح مقاربات مترددة لا يتصف أي منها بأنه"الحل"، بل محاولات للتحسين والتطوير والوصول الى ارضيات مشتركة. الايديولوجيا تبرر للحزب الايديولوجي الانفراد بالحكم ولا تؤمن بالحكومات الائتلافية والالتقاء مع الآخرين في منتصف الطريق لأن من شأن ذلك إعاقة تطبيق البرنامج الايديولوجي على الارض. الواقعية العقلانية والبراغماتية تقوم على سياسة التحالفات والائتلاف مع الاخرين، وتفكيك البرامج السياسية واعادة تركيبها وفق ما يناسب الظرف والزمن المعني. لكل ما سبق ادرك عبدالملك بن مروان منذ اللحظة الاولى ان مقتضيات الواقع لن تتيح له البقاء في برج الطهورية الدينية إن اراد استلام الحكم وممارسة السياسة. وهذا الادراك المبكر يجب ان تتأمله الحركات الاسلامية التي صعدت الى سدة الحكم في زمن الثورات العربية، وتتأكد من انطباق التجربة الانسانية في الايديولوجيا وتأدلج البشر على التجربة الاسلامية عموما، والتيارات الاسلامية في الوقت الحاضر بشكل شبه مطلق. نظرة سريعة على تجربة الاسلاميين وحكمهم من إيران الى السودان الى افغانستان الى تركيا، وصولا الى غزة، تؤكد على سير هذه التجارب في السياقات العامة لاصطدام الايديولوجيا مع الواقع. في كل تلك التجارب هناك الكثير مما يمكن ان يُقال ويُكتب عنه، لكن الشيء المشترك الكبير هو ان درجات النجاح والفشل التي اتسمت بها كل تجربة من تلك التجارب كانت متلازمة مع مقدار استجابة الحزب الاسلامي الحاكم لاشتراطات البراغماتية في تعامله مع الواقع ومحاولة تحسينه. كلما تعامل الحكم، إسلامياً كان أم غيره، مع الواقع وتعقيداته منطلقاً من تواضع السياسة في احداث التغيير وليس من عنجهية وتكبر الايديولوجيا، يصيب حظاً اوفر من النجاح. على صعيد الاسلاميين كانت تجربة حزب"العدالة والتنمية"في تركيا هي الانجح لأنه كان الحزب الاسلامي الاكثر عقلانية وبراغماتية. بقية التجارب تحوم في مربعات الفشل وبدرجات متفاوته لأنها ظلت حبيسة الايديولوجيا وقوالبها الجاهزة ولم تمتلك شجاعة الخروج منها الى افق الواقع. لكن كل تجارب الاسلاميين، بخاصة العرب، تقع في كفة وتجربة"الاخوان المسلمين"في مصر تقع في كفة أخرى بسبب أهمية مصر ومركزيتها، ولأن حركتهم هي التنظيم المؤسس و"ام الحركات الاسلامية". من اجل ذلك فإن وصول"الاخوان"الى الحكم بعد ثورة يناير يشكل منعطفاً تاريخياً بكل ما في الكلمة من معنى. وسيكون لتجربتهم السياسية ونتائجها وما تؤول اليه الأثر الاكبر على كل قوى الاسلام السياسي في المنطقة، وربما تحدد ميزان القوى الفكري فيها لأجيال مقبلة. والسؤال الكبير فكرياً وسياسياً، هو في ما إن كان وصول محمد مرسي لكرسي الحكم في مصر سيشكل بداية العقلنة لايديولوجيا التيار الاسلامي وبالتالي اندراجه في مسارات براغماتية وواقعية وتحالفية على النمط التركي، ام الوقوع في إغراء تصلب الايديولوجيا ومحاولة فرضها على المجتمع والظن بإمكان صوغ الواقع وفق الافتراضات الايديولوجية على النمط الستاليني او الايراني. في التقدير الغالب ان تجربة إسلاميي مصر ستكون بعيدة عن التجربة الايرانية لعدة اسباب موضوعية، كما لن تكون نسخة عن التجربة التركية. لا يوجد عند"الاخوان"في مصر، ولا في أي سياق سنّي آخر، مرجعيات دينية على النمط الشيعي يمكن ان تتحول الى سلطات سياسية ودينية تتجاوز التنظيم وتفرض نفسها على المجتمع، وتحيط نفسها بهالة قريبة من القداسة والعصمة. المرجعيات الدينية السنّية ضعيفة، لحسن حظ مجتمعاتها، وهي إما مرجعيات دينية سياسية تابعة لتنظيمات واحزاب، وهذه لا تمتلك سلطة الا على افراد التنظيم ودائرة ضيقة حوله، وإما مرجعيات دينية رسمية تابعة للمؤسسة التقليدية وهي الاخرى لا تملك سلطة نافذة على المجتمع."عدم المركزية"الدينية في التقليد السنّي يتيح فضاءات اوسع للنقد والانفلات والابداع، رغم انه يوفر ايضا مساحات اخرى للتطرف وبروز أمراء ومجموعات متصارعة على هوامش التيارات الرئيسية. الفارق المهم الثاني بين التجربة الايرانية والتجربة المصرية من زاوية حكم الاسلاميين هو ان الاولى تمتعت بوجود مورد النفط الذي استطاعت ان تتحكم عبره في المجتمع وتطبق سيطرتها عليه وفق نمط الدولة الريعية، وتُبقي من خلال ذلك على نمط الحكم السلطوي الذي لا يحتاج الى الاخرين في الساحة المحلية. في مصر ليست هناك موارد غنية يسيطر عليها نظام حكم ويستطيع عبرها شراء ولاء المجتمع والتحكم فيه، بما يلزم اي حكم منتخب ديموقراطيا الخضوع لمنطق الاقتصاد المفتوح وتنمية الواردات، واقامة التحالفات مع الاطراف الاخرى. كما انتهت الايديولوجيات الماركسية والقومية والبعثية عندما وصلت الى الحكم سواء عبر اختفاء صيغها المتطرفة، او تعقلنها واعادة انتاجها لذاتها إن ارادات البقاء على قيد الحياة السياسية، فإننا سنشهد السيرورة ذاتها في المستقبل القريب والمتوسط بشأن الاسلام السياسي. إن ذروة الانتصار التي حققها الاسلاميون في مصر في هذه اللحظة التاريخية في المنطقة ستكون بداية النهاية للايديولوجيا الاسلاموية الصلبة كما عرفناها، وسنرى اندراجها في سياقات الواقع والبراغماتية طوعاً أو كرهاً. * محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج، بريطانيا [email protected]