بلغ الاقتصاد الفرنسي مرحلة الشلل: فالنمو شبه معدوم، والبطالة مزمنة وشارفت على تجاوز عتبة ال10 في المئة ممن هم في سن العمل، وجهاز الإنتاج منكوب، إثر تراجع الإنتاج الفرنسي 10 في المئة عما كان عليه في 2007. والعجز التجاري ضخم، ولم يبلغ هذا المبلغ من قبل، والعجز العام بلغ 5.2 في المئة من الناتج المحلي، والدَّيْن سيفوق 90 في المئة من الناتج هذا، وتجاوز هذه العتبة يخلّف آثاراً سلبية في التوظيف والنشاط الاقتصادي. ويترتب على المشكلات هذه تفشي الفقر في فرنسا، فمعدلات الثراء الفردي فيها هي ادنى من المتوسط الأوروبي. وليس هذا الوضع المتدهور من بنات أزمة 2007?2008 فحسب، بل هو وليد نموذج اقتصادي واجتماعي متآكل ولن تكتب له الحياة، ففرنسا تستهلك 10 في المئة أكثر مما تنتج، ومحرك النمو الضامر الوحيد هو الاستهلاك الذي ترفده اقتطاعات الخدمات الاجتماعية لمصلحة الضمان والتقاعد والبطالة، وهذه قيمتها ثلث الناتج المحلي. وإثر فقدانها التصنيف الائتماني"أ أ أ"، تتجه فرنسا الى التحول بؤرة أزمة منطقة اليورو الجديدة، وسوف ترتقي في 2013 إلى مصاف أكبر مستدين باليورو، ولن يطول الامر قبل أن ترفض الاسواق تمويل اقتصاد منكمش وأسير عجزين بنيويين، العجز العام والعجز التجاري. ولا سبيل الى الخروج من الازمة غير إصلاح النموذج الفرنسي إصلاحاً محوره بعث الإنتاج وخفض الدين من طريق تقليص النفقات العامة. ولم يلتزم نيكولا ساركوزي مثل هذه الإصلاحات، على رغم إعلانه انتهاجها في 2007، وأهملت الحملة الرئاسية الانتخابية الفرنسية الأخيرة هذه المسألة، وأبرزت نتائح الجولة الاولى من الانتخابات انقسامَ المجتمع الفرنسي، ف"جبهة الرفض"استقطبت ثلث الأصوات، وبرزت انقسامات عميقة بين الشباب والمتقاعدين، وبين مراكز التجمعات السكانية الكبيرة وبين ضواحيها، وبين المدن والأرياف، وبين القطاعات المكشوفة أمام الأزمة وتلك المحميّة، وتسلَّل الشقاق الى الجماعات مع ظهور اقتراع الناخبين المسلمين، فالانتخابات الأخيرة هي مرآة أمّة منقسمة نهشتها 3 عقود من الأزمة التي أطاحت المعايير والقيم، وتشارف مرحلة القطيعة. والانتقال من إنكار الازمة الى الغضب يشرِّع الأبواب أمام الانزلاق وراء تجارب تتهدد الديموقراطية. ونفوذ فرنسا تراجع في اوروبا والعالم، والاختلاف يتفاقم بين ألمانياالمتحدة الملمّة بأصول بناء التوافق السياسي، وبين فرنسا التي تريد الاحتفاظ باقتصاد أعوام الثلاثين المجيدة المنضبط، والتي ترفض الدخول في عالم القرن الواحد والعشرين المنفتح. وحجم المشكلات الفرنسية يتضاعف على وقع تراجع اوروبا، فهي القطب الوحيد من أقطاب العولمة الذي انزلق إلى الأزمة بعد 2007. وبلغت نسبة تراجع النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو 0.4 في المئة، ونسبة البطالة 11 في المئة، والدين العام 87 في المئة من الناتج المحلي. والشرخ يتعاظم بين ألمانيا ودول الجنوب الواقعة في براثن الانكماش، والتي تواجه ارتفاع معدلات البطالة وتتصدى لمهمة مستحيلة: تقويم الموازنة العامة. وثمة أزمتان عنيفتان تعصفان بأوروبا: خطر خروج اليونان من منطقة اليورو، وأزمة المصارف الاسبانية الرازحة تحت ثقل 200 بليون يورو من الديون، فإما تفلح فرنسا في إصلاح بنيتها في الأعوام الخمسة المقبلة، وإما تلقى منطقة اليورو مصير اتحاد دول اميركا اللاتينية أو اتحاد كتلة الذهب، وتصبح فصلاً من فصول تاريخ الاتحادات المالية التي لم تقيَّض لها الحياة. وقضية بعث النمو حيوية، وعجلة النمو تدور في العالم ونسبتها تبلغ 3.5 في المئة. ولكن النمو متفاوت بين مناطق العالم، فهو يتباطأ في الدول الناشئة جراء انهيار الطلب الغربي، ولكنه لا يزال عالياً في آسيا ويبلغ 7.5 في المئة. والعالم الغربي يمر في مرحلة النمو الضامر الذي تقوضه بطالة بنيوية ويضعفه دين عام ضخم، وإزاء التفاوت هذا تلوح في الأفق مخاطر انتهاج سياسات حمائية تعرقل حركة التبادل العالمي على ما حصل في الثلاثينات. وعليه، تبرز الحاجة الى بعث النمو في الدول المتطورة. والنمو في الولاياتالمتحدة بلغ 2.5 في المئة سنوياً، ويعود الفضل في انخفاض معدلات البطالة إلى 8 في المئة الى سياسات مالية تعزز كفة الدولار وتقوّم قطاع الصناعة. واليابان أسير الانكماش جراء العجز عن الإصلاح، والأفول السكاني، ووقف الاعتماد على الطاقة النووية إثر أزمة فوكوشيما، التي أطاحت نموذج اليابان الاقتصادي والنووي. وأوروبا هي أسيرة دائرة التقشف والانكماش المغلقة، وسياسات التقشف لا غنى عنها، وهي ليست وراء انفجار الأزمة في اليونان وإسبانيا، فالدولة في اليونان غيرموجودة، والضرائب لا تجبى. والحال فيها لم تتغير منذ 1850. واليوم، ثمة ظروف ديبلوماسية مؤاتية للنمو: فباراك أوباما يحتاج الى تحريك عجلة النمو ليفوز بولاية ثانية، وآسيا تسعى الى توجيه نشاطها الاقتصادي نحو تلبية الطلب الداخلي، وأوروبا لا يسعها ألاّ تحرك ساكناً مخافة انفجار منطقة اليورو. وفي اقتصاد مفتوح، لا ترتجى فائدة من استراتيجيات تحفيز النمو الكينزية ما لم يدعمها نظام انتاج فعال، على ما هي الحال في ألمانيا والصين والولاياتالمتحدة، فالسياسات الكينزية من غير مثل هذا النظام تنتهي الى ركود الإنتاج الوطني وزيادة الاستهلاك وارتفاع معدلات الاستيراد. والأولوية في دول تعاني عجزاً بنيوياً مثل فرنسا، هي تعزيز الطلب التنافسي، أي الاستثمار المنتج وتنمية الرأسمال الإنساني وتمويل الأبحاث والابتكارات العلمية. والسبيل إلى النمو الأوروبي قوامه إجراءات البنك المركزي الاوروبي على رأسه ماريو دراغي، أي ضخ سيولة ضخمة، وتسييل الديون العامة، وخفض معدلات الفائدة وسعر اليورو، والإبقاء على اتفاق الموازنة مع تعديل هامشه الزمني، وتوجيه الموازنات العامة المحلية والأوروبية نحو الاستثمار وتمويل البحث العلمي وتشجيع الابتكار. ومنذ 2007 الى اليوم وفصول المأساة اليونانية تتواصل. وبلغت نسبة انهيار الناتج المحلي نحو 20 في المئة. وإذا انسحبت اليونان من اليورو، زادت خسارة ناتجها المحلي من 10 الى 15 في المئة، وأثر مثل هذه الخسارة يضاهي اثر ازمة الثلاثينات في الولاياتالمتحدة، ويرجح ان يبلغ معدل البطالة في اليونان 30 في المئة، وأن يتفشى الفقر في معظم شرائح الطبقة الوسطى. وحسبان ان مثل هذه الصدمة الاقتصادية لن يترتب عليها آثار سياسية هو من بنات الخيال ومنقطع من الواقع، فحكم العسكر الديكتاتوري طُوي في وقت غير بعيد، أي في 1974، وفي انتخابات أيار مايو الماضي، برز حزب نازي وحاز نحو 20 مقعداً في البرلمان، فمن اين للديموقراطية الاستقرار إذا تفكك المجتمع وخرج البلد عن عقال الحكم وتذرر الأفراد؟ فغياب النمو لا ينفك عن مخاطر تقويض الحرية السياسية، والنمو هو رهن قدرة الدولة والمجتمع على الإصلاح المتواصل للتصدي للصدمات، فبين أنقاض الأزمة تبرز أحزاب متطرفة وشعبوية في أوروبا، وفي الجولة الاولى من الانتخابات الفرنسية الاخيرة، اقترع 33 في المئة من الناخبين لمرشحين قوميين معادين لأوروبا ولمؤيدي السياسات حمائية. والحق ان خروج اليونان من منطقة اليورو غير مستبعد، على رغم استفادة هذا البلد الصغير من خطة انقاذ مالية ضخمة، ولكن اليونان ترفض خطة التقويم المالي. والرفض هذا يؤدي الى وقف الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مدها بالأموال، فتنزلق الى الإفلاس وتخرج من اليورو. ونتائج الخروج من اليورو كارثية على اليونان، فالعملة الجديدة تفقد نصف قيمتها امام اليورو، والاستثمارات ستهرب، ويضرب الافلاس المصارف. وتخفيض سعر العملة يحفز النمو ولكنه لن يحول دون تفشي الفقر وقد لا ينجح في حفظ الديموقراطية. وإذا انسحبت اليونان من العملة المشتركة، بلغت خسارة اوروبا المالية 370 بليون يورو. وفرنسا ستحظى بحصة الأسد من هذه الخسارة، نحو 100 بليون يورو. والى هذه الأخطار، ستبلغ ترددات الانهيار اليوناني المصارف الاوروبية، وانهيار الدين العام في دول اليورو. * أستاذ تاريخ ومحام ومعلّق، عن"لونوفيل اوبسيرفاتور"الفرنسية، 31/5/2012، إعداد م. ن.