"في فمي لسانان يتناقضان ولا يكذبان"ما يقوله الخطّاط السوداني حسن موسى 1951 في تقديم معرضه الفردي المرافق ل"ملتقى الشارقة للخط"في دورته الخامسة كون، يُحرّض على فهم كيفية تولّد الحرف المكتوب في لغات العالم، سواء كُتب من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، أو حتى من الأعلى إلى الأسفل. ويبدو المرء أمام تلك الخطوط المبهمة في اللوحات عاجزاً تماماً عن فهم ما كُتب بلغات عدّة، ولكنْ مُؤوِّلاً ما يرى من تكوين بصريّ، يُحرّض على فهم معنى حرفٍ من المحال إدراكه دون إتقان لغته المكتوبة. في لوحة موسى"رقص"حبر على ورق/ 2007، لا يكاد يفصل بين شكل جسد الأنثى الملتوية، والحروف التي تتكاثر من منتصف جسدها، لتُكوّن ثوباً عريضاً من الكلام، وقد لا تتسنّى قراءة الكلمات والجمل إلا بعد الاستعانة بالرسام- الخطّاط"إنها مزيفة. تخرج قَدَما المرأة من بين الأحرف الثوب الغجري غاويةً، في نوع من إحياء المعنى على الجسد الصوفي، كما ينهض المُفسّر من الأحرف، ليمتطي الأحصنة، في لوحة"الخيّالة"حبر على ورق، التي تصبح الكلمات فيها كُتلاً متفرقة لخيّالة يمتطون أحصنة، خيّالة يحمل كُلٌّ منهم رمحاً واحداً يتيماً قد يكون القلم ذاته أو ألفاً عربيةً طويلة. يصنع موسى من الحروف أيضاً عكازاً في لوحته"فرح الحكيم"حبر على ورق، يُكوّن فيها الظهر المنحني الكهل بالطريقة ذاتها، العباءة، والوجه واللحية الكلمات للحكيم. رسّام آخر هو المغربيّ نور الدين ضيف الله 1960، وُضع معرضه أيضاً في قائمة المعارض الدولية المُوازية، يظهر الخط عنده متوارياً خلف ألوان التشكيل المعاصر، فيصبح الكلام صوتاً خافتاً في لوحة بلا عنوان مواد مختلفة/ 2011، إذ يستطيل الحرف العربي، كما لو أن طفلاً يكتب باء ً لا حدودَ لقعرها، ويظهر في اللوحة ذاتها، قمر أبيض بدائيّ أيضاً، ومساحة تحته يتخلّلها ما يشبه النهر والهضبة القليلة النهوض. الملصق والكولاج أما المصرية مروة عادل 1984، فتُحيل الصور الضوئية إلى مكان آخر، أي أن بورتريه الوجه والجسد للموديل، يُغطّى بطبقة من الكولاج، وتستخدم عادل تقنيةً حديثة، يصبح الكولاج فيها مجرد مُلصَق رقيق على الصورة الضوئية، ليخرجها من كلاسيكيّتها بعد تموضع الحروف على الجسد، حروف أُخرجت من برامج الحاسوب، بعيداً عن الرسم اليدويّ المتأني، إنها صورة العصر السريع لامرأة مُهمَلة من الآخر، لكنها تنجو وحيدةً في عالمها الداخليّ المعتم والإيروتيكي. ومن مختبر مشابه، تعرض المغربية للا السيدي 1956 أعمالاً تُجسّد"نساء من المغرب"بالزيّ التقليدي، نساء بربريات، طُبعت صورتهن على قطع من الألمنيوم، وتُغطيهنّ صفائح رقيقة من المكتار اللامع، ويأخذن وضعيةً اجتماعية نسائية، تُذكّر بعاريات عصر النهضة، لكنهنّ هنا، يرتدين ما يُخفي الجسد والوجه، وتكشف امرأة واحدة في إحدى اللوحات"بورتريه بقذائف الرصاص"عن صدرها وجزء من شعرها، بينما يغطي ما كشف الكلام، مبقياً على عينيها وحدهما ظاهرتين، كأنهما من خلْف برقع، وفي الخلفية للصورة الضوئية المطبوعة، قطعٌ معدنية نحاسية، كأنها فوارغ رصاصات بعد إطلاقها، توحي بموت يُبقي على الجسد محتجزاً خلف ستار. "سُو مي"المادة الطيّبة الرائحة، مادة سوداء، ناتجة من الرماد الأسود بعد خلْطها بسائل زيتي صمغي، شكّل بعض الفنانين اليابانيين منها لوحات عدّة، وفسحوا في ورشة"فرشاة كبيرة"، المجالَ أمام المارّة لرسم ما يشاؤون من كلمات وخطوط، وقد قدّم الفنانون أنفسُهم، معرضاً جماعياً موازياً، ويتكاثر في لوحاتهم المعنى الموحي أكثر من إخلاصهم لرسم الحرف الياباني الأصلي، كما في لوحة"قصيدة صينية"خطوط شبه متصلة، حيث يأخذ المظهر العام للرسم شكلاً تجريدياً آسراً، وكأنه طريق مُتشعِّب في قمة جبل. لم تَنزَحْ بعضُ الخطوط العربية، في هذا الملتقى المعرض العام/ الاتجاه الأصيل عن شكلها المتداول الذي تُوشّى به المساجد أو اللوحات الكلاسيكية، أي أن الخط لم ينضج بعيداً عن قُدسيّته، تلك القدسية التي تُكرِّس للمعنى حدوداً مُعيّنة، يترسّخ فيها العمق الفكريّ أكثر من الجمالي، لكنه غنيّ ورزين. الحرف الانكليزي وربما يكون الحرف الإنكليزي عند الأميركي إيبون هيث 1973، في معرضه الفردي الموازي، متحدياً التركيبيّةَ الملصق بها، إذ يُكوّن هيث أعماله من أطُر زجاجية وخشبية وشرائح طباعية تضم هذه الكتاباتِ والأحرفَ الإنكليزية، كما لو أنها كتلة واحدة خالدة، ومُلخّصة للجدلية العلمية للكون، والعالم الخياليّ أو التقني المفترض، ولا ينسى شدَّ هذه الحروف إلى سلاسلها بمحبس الحلق الأنثوي، مستخدماً أدواته ببساطة وتعقيد كُليّ في الوقت ذاته، إنها لعبة الكتلة والفراغ المزمنة، وإنْ تخللت الرتابةُ بعضَ أشكال الأحرف الرقمية، إلا أن ازدحامها في بعض الأعمال، هو أساس اللغز الناتج من شكلها النهائي، لغز لغةٍ عصيّة على غير الناطقين بها، وجدّية في طرحها الحرفيّ المُتقشّف، وليست كالعربية المتحركة، والملتوية، والمتعددة في معانيها، والمواربة في مقاصدها. في ساحة الخط في الشارقة القديمة، سيستضيف الملتقى 26 معرضاً فردياً وجماعياً دولياً، ل334 فناناً، وتحديداً 1525 عملاً فنياً من الخط والزخرفة والحروفية والأنماط المعاصرة التي تستلهم الحرف وأعمال الفيديو والأعمال التركيبية، كما يُكرّم الملتقى هذا العام ثلاثة خطاطين، هم:"حسين كوتلو تركيا، ومحمد حمام مصر، ومهدي الجبوري العراق"، عدا ورش العمل والندوات الفكرية المرافقة، ومعرضاً مستقلاًّ لخطاطين إماراتيين تحت عنوان"في حب سلطان"، تقديراً لجهود الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة في دعمه المبدعين والفن. وضمّ الملتقى معرضاً لأدوات الخط، تلك الخاصة بالخطّاط الإماراتي حسين الهاشمي، من أقلام وعُلب خاصة بحفظ الأقلام، وأدوات تخلص لمفهوم الحرف البطيء في خطّه على الورقة، ذاك البُطء المُحفّز على التأني أيضاً في ما يجب كتابته، والذي قد لا نجده اليوم في مفاتيح الكتابة العصرية أزرار الحاسوب، ضغطة بسيطة على زرّ تنتج حرفاً، ليست له ماهية خط الشخص، حرفاً مُوحّداً معولماً، لن يعرف من كاتبُه حتى بعد تمحيصَه أو تحليله، ليس كما الحروف المكتوبة باليد المرتجفة أو القاسية أو الليّنة أو الشاعرة.