الشعب الذي يفطر فسيخاً ويتغذى رنجة ويهضم بالبصل الأخضر يتعمل له ألف حساب". تحذير مهم أطلقه كثيرون أمس في مناسبة عيد"شم النسيم"المصري الذي تلاحمت فيه رائحة أسماك"الفسيخ"المالحة النفاذة مع سخونة الحراك الرئاسي الهدامة ليكتب المصريون في تاريخهم الحديث أن لا المرشح السلفي حازم أبو إسماعيل ولا"الإخوان"أو حتى"الفلول"قادرون على زحزحة أكثر أعيادهم بهجة وشعبية قيد أنملة من مكانته التاريخية الحضارية الفرعونية. ورغم نعت هذه الحضارة ب"العفنة"من قبل أحد أبرز رموز الدعوة السلفية في مصر قبل أشهر، ورغم الشكوك القوية حول عفونة الأسماك المملحة من"فسيخ"و"ملوحة"، إلا أن جموع المصريين لم تلق بالاً لأي من العفانتين. ورفع ملايين المصريين منذ فجر أمس راية"الشعب والفسيخ يد واحدة"، متحدّين بذلك كل القوى السياسية والطبية والدينية المتناحرة. فبعد ما لحق بشعار"الشعب والجيش يد واحدة"من تشققات، ورغم عقود من التحذيرات الطبية من مغبة تناول الأسماك المملحة في هذا اليوم، اجتاحت جحافل المحتفلين والمحتفلات كل ما يمكن اجتياحه من أرصفة على الكورنيش وأعالي الجسور المطلة على نهر النيل، إضافة إلى عرض النهر نفسه والحدائق العامة، تحدياً لتحريم الاحتفال ب"شم النسيم"، مسلحة بما تيسر من أسماك وبيض وبصل للاحتفال بالعيد الذي يمكن اعتباره الأكثر تعبيراً عن وحدة المصريين على مدى ما يزيد على 4700 عام. وإمعاناً في التأكيد على هذه الوحدة التي تجمع صفوف المصريين، انتشرت دعابات"شم النسيم"المصطبغة بلون الأحداث المحتدمة وجدران مصر التي اكتست باللون الأزرق بعد غمرها بملصقات أبو إسماعيل، وهو المرشح المتأرجح بين الاحتمال وعدمه. وعلى غرار صورته التي يرفع فيها ذراعه إلى أعلى ومذيلة إما بعبارة"سنحيا كراماً"أو"أدركوا اللحظة الفارقة"، غمرت جدران"فايسبوك"أمس دعوات"سنأكل فسيخاً"أو"أدركوا الرنجة القاتلة"، وهي العبارات الساخرة التي طالت كذلك معضلة الدستور ولجنة التأسيسية ذات اللون الواحد، إذ أكد أحدهم أن"الدستور القادم مسلوق وملون مثل البيض، ورائحته طالعة مثل الرنجة، ومعفن وسنأكله مثل الفسيخ". وإذا كان عنصرا الإجبار وديكتاتورية الغالبية يلوحان في الأفق بالنسبة إلى الدستور، فإن ذلك غير وارد بعد بالنسبة إلى الإعلام. واقترح البعض في مناسبة"شم النسيم"، وفي ظل ملايين البيض المتداول في هذا اليوم، وبما أنه عيد فرعوني، التوجه إلى مقر قناة"الفراعين"في مليونية رشق بالبيض، وذلك بسبب طبيعة المادة الإعلامية العجيبة التي تبثها القناة وصاحبها توفيق عكاشة العضو السابق في الحزب الوطني المنحل. روح الصمود والتحدي لدى جموع المصريين لا تعبر عن نفسها فقط في وجه الإعلام العجيب، أو انتخابات الرئاسة المريبة، أو الدستور الغريب، أو حتى إصرار الفلول على الجثوم على أنفاسهم، لكنها تظهر جلياً في التغلب على الحمى القلاعية التي أصابت الأبقار في مقتل، فألهبت أسعار الأسماك، فتراوحت أسعار"الفسيخ"بين 40 و 65 جنيهاً للكيلوغرام، والسردين بين 20 و30 جنيهاً، و"الرنجة"بين 25 و30 جنيهاً. هذا الغلاء الفاحش لم يقف عائقاً أمامهم، بل لجأوا إلى ترشيد"الفسيخ"مع الإكثار من الخس والبصل، وذلك عملاً ببيت الشعر القائل:"إذا الشعب يوماً أراد الفسيخ فلا بد أن يستجيب البصل". لكن استجابة البصل لم تثن بعض المتشددين الذين لم ينسوا إعادة تدوير فتاوى تحريم الاحتفال، إلا أنها أخف وطأة من الأعوام الماضية، وهو ما دعا كثيرين إلى القول بأن أحلى ما في"شم النسيم"هذا العام انشغال السلفيين بالصراع على كعكة حكم مصر، ومن ثم انشغالهم عن التحريم. لكن المرشحين المؤكدين للرئاسة لم ينشغلوا، فظهر حمدين صباحي في جولة انتخابية في القناطر الخيرية، وعبدالمنعم أبو الفتوح من خلال أعضاء حملته. ورغم ما يموج به هذا العام من حملات وتحريمات وأسماك وبيض وانتخابات واستبعادات، إلا أن"شم النسيم"لا يبق منه إلا جذوره الضاربة في تاريخ المصريين، وأغنية العملاقين الراحلين سعاد حسني وصلاح جاهين:"الدنيا ربيع والجو بديع قفِّل لي على كل المواضيع"، بما فيها السياسة والدستور و"الفسيخ".