ترصد الناقدة السينمائية ندى الأزهري، عن قرب، الشبكة المعقدة لعلاقات العمل في السينما الإيرانية، من زوايا مختلفة ومرايا متعاكسة. وعلى مدى نحو أربعة أعوام كانت ندى تبحث في طهران عن الأفلام الإيرانية الجديدة والقديمة والممنوعة، وتلتقي المخرجين والممثلين والنقاد وموظفي الرقابة وضحاياهم، وتبحث عن الخيوط التي تربط بين أزمة السينما وأزمات المجتمع نفسه، بما فيه من تقاليد وطبائع موروثة ونزعات نحو التجديد، في السينما والفنون ونمط الحياة معاً. ومن الغريب أن الصحافة العربية اعتادت أن تقدّم وجهاً واحداً للسينما الإيرانية يتمثل في جمالياتها أو نجاحاتها العالمية، وتتجاهل أن الأفلام الجيدة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في الإنتاج السنوي، كما تتجاهل ما تنشره الصحافة الإيرانية من النقد اللاذع الموجه إلى الرقابة على السينما والفنون التي أجهضت مشروعات أفلام واعدة وشوّهت أفلاماً منجزة غير عادية، وأغرقت صالات العرض بأفلام التسلية الفجة والميلودراما التي تذرف الدموع. ولم تكن حال السينما، في هذا، بعيدة عن حال الفنون التشكيلية التي تلبست بدعة الحروفية المتخلفة في شكلها ومضمونها. بينما ظلت السينما العربية في موقعها المحلي المتخلف عن التواصل مع العالم. حالة خاصة وتعيش السينما الإيرانية"حالة خاصة"في السينما العالمية بعدما أضافت اسمها إلى السينمات الشرقية التي أخذت مواقعها في خريطة السينما العالمية الجديدة، إلى جانب السينما الهندية واليابانية الصينية والكورية الجنوبية والتركية. أما الحالة الخاصة فهي حالة حصار داخلي، يتمثل في شبه انغلاق، وشبه انفتاح، على الداخل والخارج. وبين هاتين الحالتين"يتسرب"عدد محدود من الأفلام الجيدة، وأعداد مضاعفة من الأفلام العادية، التي تأخذ طريقها إلى جمهور الصالات الشعبية، الذي يبحث عن التسلية، وهي بضاعة رائجة في الداخل، ويظهر حجم السينما الإيرانية بالأرقام من خلال الإنتاج السنوي الذي يصل إلى ثمانين فيلماً، وعدد المخرجين الذي يتجاوز الخمسمئة، وعدد الصالات الذي يبلغ ثلاثمئة وخمسين صالة، مئة وعشرون منها في طهران التي يعيش فيها اثنا عشر مليون نسمة. أصدرت ندى الأزهري حصاد رحلتها مع السينما الإيرانية في كتاب شامل بعنوان"السينما الإيرانية الراهنة"دار المدى - بيروت 206 صفحات، وحمل الكتاب العنوان الفرعي"إضاءة على المجتمع الإيراني"، ولم يكن إنجاز هذا الكتاب ممكناً، لو لم تكن ندى مدعمة بحبها للسينما، منذ طفولتها في مدينة حمص، حيث كانت أمها ترافقها إلى الصالات لمشاهدة الأفلام الجديدة. وتأتي أهمية هذا الكتاب من التركيز ? في بحث ميداني من الداخل - على الظروف التي تحيط بصناعة الأفلام، والمخرجين والممثلين والجمهور، ويشير الناقد السينمائي إبراهيم العريس إلى أهمية هذا العمل، من خلال اقتحامه الفجوة الفاصلة بين الجمهور العربي والسينما الإيرانية، فيقول في تقديمه للكتاب:"في وقت كانت وسائل الإعلام العربية، مكتوبة ومرئية، تهتم في شكل مكثف بالسينما الإيرانية التي قد صار لها أعلام وأسماء وتراث، على رغم كل ضروب الحظر والمضايقة، كان واضحاً أن معظم هذا الاهتمام العربي يتم من طريق"الريموت كونترول"، أي من بعيد، عبر الترجمة... وفي أحيان قليلة عبر معاينة مهرجانية لبعض الأفلام، ومتابعة فضولية لبعض الأسماء". تعتمد السينما الإيرانية في مجموعها على الكمّ، وليس على النوع. فالأفلام الجيدة هي الاستثناء من قاعدة عريضة من نحو ثمانين فيلماً في كل عام، يبرز منها نحو خمسة أفلام تشق طريقها إلى العالم الخارجي ومهرجاناته الاحتفالية. وكانت بداية نجاحات السينما الإيرانية حين فاز فيلم عباس كيارستمي"طعم الكرز"بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1997، وحينذاك قال كيارستمي:"إن إيران التي كانت تصدّر النفط والسجاد والفستق صارت تصدّر الأفلام اليوم". ومنذ ذلك الحين ظل كيارستمي حاضراً في أهم المهرجانات السينمائية، عضواً في لجنة التحكيم أو رئيساً لها، أو حين يعرض له فيلم جديد أو قديم من أفلامه التي تتميز بلمسات شعرية. فعلاقة كيارستمي بالشعر واضحة من خلال ما نشره من لقطات شعرية في أكثر من مجموعة، وأعاد صوغ غزليات وخمريات الشاعرين الشيرازيين الكبيرين سعدي وحافظ. ويبدو كيارستمي في إجاباته عن أسئلة الأزهري في حوار الكتاب معه، متحفظاً وصريحاً معاً، فيجيب عن سؤال عن تأثير الثورة في أفلامه قائلاً إن الإجابة تكمن في أفلامه التي لم تختلف في مرحلتي الثورة وما قبلها. وهو يؤكد علاقته الحميمة ببيته وليس ببلده، حيث يقول:"لست مفتخراً ببلدي، ولا أظن أنه المكان الأنسب للعيش، إنما لديّ عاداتي وذكرياتي في هذا المنزل... هنا مكاني الذي أتحدث فيه بلغة أصدقائي والآخرين نفسها، وحين أفكر بالمكان وأذكره فإن البيت هو ما يحضر في مخيلتي وليس إيران". ويعترف كيارستمي بأنه مولع بأفلام الواقعية الإيطالية الجديدة وأفلام كوروساوا وأوزو وباستر كيتون وأفلام الويسترن الأميركية. مقيمون ومهاجرون وإلى جانب كيارستمي ثمة في الكتاب عدد لا بأس به من المخرجين المجددين اللامعين، مثل أصغر فرهادي وجعفر بناهي وكمال تبريزي وأبو الفضل جليلي ومزيار ميري وبهمن قبادي، إضافة إلى بعض الأسماء اللامعة من المخرجين المخضرمين مثل دريوش مهرجوي وبهرام بيضائي، وهم يعملون عادة في إيران بينما هاجر أمير نادري ومحسن مخملباف وعائلته السينمائية ورفيع بيتز والممثلة الشابة غلشفته فرهاني إلى الخارج. ويبرز النشاط النسوي في السينما الإيرانية بقوة من خلال عدد متزايد من المخرجات والممثلات الجريئات والموهوبات، اللواتي يحملن ثقافة واسعة وقدرة فاعلة على التحليل والابتكار والتجديد، وهن يعملن في ظروف سيزيفية غائمة، ولكل منهن حكاياتها الغريبة مع السينما ومع كل فيلم. انتقلت تهمينة ميلاني من الهندسة المعمارية إلى الإخراج السينمائي، وأنجزت أفلاماً مثيرة عدة، حظيت بالنجاح محلياً وعالمياً، حيث عرض فيلمها"امرأتان"في ثمانية وثلاثين مهرجاناً عالمياً. وكانت تطمح إلى الحصول على جائزة مرموقة عن فيلمها"النصف المخفي"، فتلقت حكماً بالإعدام، هي التي كانت علاقتها بالرقابة سيئة منذ فيلمها الأول الذي أعادت كتابته ثماني مرات، وجاءها العفو الذي ألغى حكم الإعدام متأخراً. وتحولت نيكي كريمي من التمثيل إلى الإخراج، بعد أن قدمت أدواراً بارزة في ثلاثين فيلماً، وبدأت متاعبها مع الرقابة في الفيلم الأول الذي أخرجته، ولم تحصل على موافقة الرقابة على عرضه، إلا بعد أن حذفت منه ربع ساعة. وعندما تغيرت الحكومة، أحيل الفيلم إلى الرقابة الجديدة التي حذفت منه حوارات مفصلية، ولكنها لم تسمح بعرضه، وحدث ما يشبه ذلك مع فيلمها الثاني. وهذا ما يعني أن الرقباء على السينما من مستويين: رقيب متشدد ورقيب أكثر تشدداً، وليس هناك رقيب معتدل. وتمثل كريمي خطاً واضحاً بين المخرجات الإيرانيات، ولكنها تفضل الحديث عن حقوق الإنسان، بدلاً من الحديث عن حقوق المرأة. وفي حالة خاصة ولدت الممثلة ليلى حاتمي في عائلة سينمائية، فهي بنت المخرج علي حاتمي والممثلة السابقة زاري خوش، وزوجها المخرج علي مصطفى الذي يشاركها في إدارة صالة سينمائية في وسط العاصمة، تعرضت لحريق متعمد، ربما لأنها تستقطب عدداً كبيراً من المثقفين البارزين. وترى ليلى أن السينما تشكل هويتها الخاصة. وجاء أفضل أدوارها في الفيلم الأخير لأصغر فرهادي"انفصال نادر وسيمين". أما الممثلة النجمة فاطمة معتمد آريا فترى أن الوضع الحالي للسينما الإيرانية مرحلة عبور من جيل إلى آخر، وتقول:"إذا لم نعد إلى الوراء فسننجز أفلاماً جيدة". وتطرح المخرجة والممثلة مانيا أكبري أفكاراً ساخنة عن تجربتها في الحياة وفي السينما، وترى أن التصوير الرقمي فتح المجال أمام المخرجين من الجيل الجديد لتصوير أفلامهم من دون الخضوع للشروط السوريالية للرقابة. جاء أصغر فرهادي أربعون عاماً، إلى السينما من المسرح والتلفزيون، كاتباً ومخرجاً بارعاً في أسلوب القص، وصعد إلى الشهرة بأفلامه الخمسة:"الرقص في الغبار"،"المدينة الجميلة"،"أحاديث الأربعاء"،"عن إلي"و"انفصال نادر وسيمين"، وهي التي أنجزها منذ عام 2003، وحصدت خمساً وعشرين جائزة محلية وعالمية، وانفرد فيلمه الأخير بالجوائز الثلاث الأكثر أهمية وهي: الدب الذهبي في مهرجان برلين والكرة الذهبية والأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. ويبدو فرهادي وزميلته رخشان بني اعتماد من أقل المخرجين تضرراً من سطوة الرقابة، لأن تجربة العمل في التلفزيون أعطتهما خبرة في التعامل مع متاهة خطوط الرقابة، أو الالتفاف عليها. ومع ذلك يرى فرهادي أن العلاقة"الأبوية"بين السينما والرقابة هي المشكلة الكبرى، فالأب يريد تربية ابنه على طريقته، وتبعاً لأفكاره، بينما يتمرد الأبناء ويصرخون ضد رغبات النظام الأبوي، وهذا ما يشبه حالة السينما السوفياتية، حيث كان"الأب"يعطي ابنه ما يحتاجه من المال، ولكنه يعاقبه بالضرب، وبين الضارب والمضروب ضاعت أفلام وأحلام رائعة، بينما كان ستالين شخصياً يراقب في مكتبه بعض الأفلام"المشبوهة"وهو يدخن الغليون. واحد على 14 أنجز المخرج أبو الفضل جليلي أربعة عشر فيلماً، على مدى ثلاثين عاماً، لم ير منها الجمهور المحلي سوى فيلم واحد، وهو الذي فاز مرتين بالجائزة الذهبية في مهرجان نانت للقارات الثلاث، كانت الأولى عن فيلمه الأول"قصة حقيقية"عام 1996، والثانية عن فيلمه"دلبران"عام 2001. وعندما انتهى من كتابة سيناريو فيلمه الأول راح يبحث عن صبي مناسب لتمثيل دور البطولة فيه، وحينما وجده اكتشف أن قصة حياته أفضل من قصة الفيلم، فترك السيناريو المتخيل الجاهز وصور القصة الحقيقية لحياة الصبي، ومع منع أفلامه الثلاثة عشر لم يتوقف جليلي عن أحلامه السينمائية، وهو دائماً مشغول بكتابة أفلام جديدة لا يعرف مصيرها. حرصت ندى الأزهري على تدعيم بحثها بمقتطفات من تصريحات نقاد ومدراء فاعليات مختلفة في حركة السينما، تؤكد الشرخ الكبير بين طموحات المبدعين وآراء الأجهزة الرسمية، مما تنشره الصحافة الإيرانية، ومنها ما قاله أمير اسفندياري مدير الشؤون الخارجية في مؤسسة الفارابي:"إن الأفلام المشاركة في مهرجان فجر يجب أن تتوافق مع ثقافتنا وديننا، وما نرفضه واضح وبسيط: الجنس والعري والعنف"، ونسي أن يضيف"الحب والأحلام والخيال...". وقال مهدي مسعود شاهي، مدير مهرجان فجر لعام 2010:"إن السينما الإيرانية شأن عظيم نابع من عظمة ثقافتنا القديمة ومن الإسلام، لدينا مختصون في السينما وفنانون قيّمون هم رأس مال كبير للبلد، إنهم ينقلون ثقافتنا وديننا". ويعتقد المدراء والرقباء أن مهمتهم تتطلب توعية السينمائيين وإرشادهم ليحملوا أيديولوجيا النظام إلى العالم، وهذا يصب في"المصلحة الأخلاقية للمخرج"، وقد لا يصب في المصلحة الأخلاقية للباحثين والكتاب الذين يطرحون الأسئلة الساخنة عن علاقة السينما بالحياة. كانت مهمة ندى الأزهري صعبة في قراءة السينما الإيرانية، وعلاقتها بالمجتمع، من الداخل، والكتابة عنها بحب ونقد حر متوازن، مع أن الباحثين في هذه السينما المتفردة يعانون ما يعانيه السينمائيون الإيرانيون في التواصل مع السينما العالمية الجديدة، وهم يعبرون الحواجز والدروب الملتوية الشائكة، وأول هذه الحواجز متاهة الرقابة المتخلفة التي تشكك بالنوايا، قبل التشكيك بالكلمات والصور.