في ربيع عام 1988، وهو آخر أعوام الحرب العراقية - الإيرانية، قُصِفَت مدينة حلبجة في كردستان العراق بسلاح كيماوي نشر غازات فتّاكة كثيفة في هوائها. وعلى الفور، قضى ما يزيد على 5 آلاف مواطن مدني اختناقاً بتلك الغازات، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. وأصيب قرابة 20 ألفاً آخرين بإصابات مختلفة، مات المئات منهم لاحقاً. في عراق الدييكتاتور صدّام حسين، ارتكب الجيش مجازر جماعية بحق شعبه المستقر على أرض وطنه، فذكّر بجرائم الإبادة الجماعية على يد النازية والفاشية، بل ربما فاقها. وقبل فترة وجيزة، استضاف البرلمان الأوروبي مؤتمراً عن مقتلة حلبجة طالب المجتمع الدولي بالاعتراف رسمياً بأنها تمثّل إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية. ودعا المؤتمر الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إرسال بعثات لتقصي الحقائق، فيما رأى مراقبون أن التحري عن الشركات التي زوّدت صدام حسين بالسلاح الكيماوي قد تؤدي إلى فتح ملفات شائكة، ربما تورط حكومات غربية عدّة. أنواع أسلحة الدمار الشامل تصنّف أسلحة الدمار الشامل الى 3 أنواع: نووية وكيماوية وبيولوجية. تعتبر الأسلحة الكيماوية أول أنواع أسلحة الدمار الشامل التي أنتجها نظام صدام حسين في منتصف السبعينات من القرن الماضي. وأشار الخبير البيئي علي حنوش الى أن الخطوة الأولى تمثّلت في إنشاء"مؤسسة إبن الهيثم للبحوث والدراسات"التي عملت على الغازات السامة. وثمة تقارير رصدت وجود 15 مركزاً مكرساً لإنتاج الغازات السامة المخصّصصة للاستعمال العسكري. وأشارت تقارير اخرى الى نجاح نظام صدام في إنتاج مواد مثل"هيدروجين سيانيد"Hydrogen Cyanide وغاز الكلورين، إضافة إلى غازين لا يتركان أثراً عند استعمالهما، هما"سارين"Sarin و"تابين"Tabun الذي يشتهر باسم"غاز الأعصاب". كما أنتج غازاً شديد الخطر هو"في إكس إيه"VXA، إضافة الى غاز"توكسك بي"Toxic B. تضاف الى هذه القائمة، غازات تؤثّر في الدم، مثل"حامض هايدروسيانيك"، واخرى خانقة مثل"فوسفين"، وثالثة مُسيّلة للدموع وغيرها. وتتلبّث هذه الغازات في البيئة لمدد متفاوتة. إذ يستمر غاز الأعصاب لما يتراوح بين 12 ساعة الى أيام. وتؤثر بعض الغازات في لون النبات والمزروعات، وتسبب موت كثير من الحيوانات. وقد تمكن نظام صدام من إنشاء صناعة كيماوية متكاملة، خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضي. ونجح في إنتاج الرؤوس الحربية المخصّصة لحمل الذخائر الكيماوية وتركيبها على صواريخ أرض-أرض، إضافة الى قذائف المدفعية وصواريخ الطائرات. وقدرت مصادر غربية أن تلك الترسانة الكيماوية شملت 30 ألف طن من المواد السامة. وإضافة الى حلبجة، قصفت قوات النظام السابق مناطق كثيرة بالسلاح الكيماوي. وتنتشر مجموعات من القنابل الكيماوية غير المنفجرة في أراضي كردستان حتى اليوم. وأعلنت"جمعية ضحايا القصف الكيماوي لمدينة حلبجة"، أنها عثرت على قنابل غير منفلقة في خمس مناطق في حلبجة. شهادات عن الموت عقب زيارته لكردستان العراق، أورد الصحافي الأميركي كارل فيك، من ال"واشنطن بوست"، تقارير لمؤرخّين ومنظمات حقوق الانسان، تتحدث عن إلقاء الطائرات العراقية 13 حاوية معبأة بالغاز على قرية قوبتبه، ضمن عملية"الأنفال"التي خصصت لمعاقبة المسلحين الاكراد واسرهم بسبب وقوفهم في وجه السلطات العراقية. كما ذكّر بسقوط ما يزيد على 180 ألف كردي ضحية لتلك العملية. وكذلك تتحدث مصادر محلية في حلبجة عن تورط ما يزيد على 500 شركة غربية في إمداد نظام صدام بأسلحة كيماوية. وأوضح المحامي كوران أدهم، قائمقام حلبجة، أن فريقاً قانونياً التقى أهالي ضحايا القصف الكيماوي للمدينة، وابلغ الاهالي انه جمع معلومات عن شركات ساعدت النظام السابق في الحصول على الاسلحة الكمياوية. وأشار أدهم إلى أن هذا الفريق يسعى لرفع دعوى قضائية ضد تلك الشركات. مقتلة حلبجة معروفة عالمياً، خصوصاً أن النظام السابق انتج هذه الأسلحة المحرمة دولياً بمساعدة شركات أوروبية وأميركية. وعندما لم يجد النظام العراقي رد فعل عالمياً لاستخدامه أسلحة الابادة الجماعية في الحرب العراقية - الإيرانية، تمادى في استخدامها ضد الشعب العراقي، خصوصاً في كردستان العراق. في سياق متّصل، تُخلّف الأسلحة الكيماوية آثاراً معقّدة على البيئة، يستمر بعضها لآجال مديدة. ومثلاً، توصل فريق علمي بريطاني في أواسط 1993، بعد تحليل تربة المناطق التي تعرضت للقصف ب"غاز الخردل"Mustard Gas في حلبجة، إلى تحديد نوعية السلاح الذي استعمل في القصف. وتتميّز الغازات السامة المستخدمة للأغراض العسكرية بالقدرة على أن تبقى فعّالة بيئياً لفترة طويلة، على عكس المركبات السامة المخصّصة لمكافحة الحشرات والفطريات والبكتيريا وغيرها. ثمة 1500 نوع من الغازات السامة المستعملة في الزراعة، تمتلك غالبيتها تركيباً عضوياً سريع التحلّل، كما توهن قوتها بسرعة بأثر عامل الوقت. استطراداً، تمثل مقابر حلبجة الجماعية مشكلة من نوع آخر. إذ أشار الدكتور ياسين كريم أمين، مدير مختبرات الطب الشرعي في أربيل، إلى أن محاولة حفر تلك المقابر ترافقت مع حدوث وفيات بين العمال، بأثر من تعرضهم لغاز الخردل الموجود في القبور. واستضافت لندن أخيراً أعمال"المعرض والمؤتمر الدولي حول المقابر الجماعية"، الذي نظمته وزارة حقوق الإنسان العراقية لمناقشة وتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها حكومة صدام حسين. وأعلن المؤتمر أن شركة"سكيور بيو"Secure Bio المتخصّصة في المواد الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، قدمت خطة لنبش المقابر الجماعية في حلبجة وإزالة التلوث منها. ومن المقرر أن ترسل الخطة إلى برلمان إقليم كردستان للموافقة عليها قريباً. وكشف دي بريتون جوردون، الرئيس التنفيذي ل"سكيور بيو"، أن شركته زارت حلبجة في 2011، ضمن عملية تقصٍ لآثار غاز الخردل. ولاحظت الشركة أن الناس دفنوا جماعياً بعد وقت قصير من الهجوم الكيماوي، ما يرفع خطر التلوث ببقايا المواد الكيماوية. ونبّه جوردون إلى خطورة إخراج هذه الجثث من دون استخدام مواد واقية، بواسطة خبراء في هذا المجال، كي لا يقتل أو يصاب أي شخص. وبيّن أن"سكيور بيو"أحالت خططاً لحكومة كردستان تتضمن طُرُق انتشال الجثث بشكل آمن من المقابر الجماعية في حلبجة، إضافة إلى خطة للتعرف الى الجثث عبر أخذ عينات الحمض النووي من ذلك الموقع. بقول آخر، تعتبر مجزرة حلبجه جريمة ضد الإنسانية، كما تمثل كارثة تلوث بيئي شامل، بحسب الباحث جمال حميد، من جامعة"ساوث بانك"البريطانية، نظراً الى ما أحدثته الأسلحة الكيماوية من تغير في الصفات الطبيعية لعناصر البيئة من الماء والهواء والتربة، إضافة الى قتل الإنسان والحيوان وتدمير المزارع وإلحاق الضرر بالنباتات. وأشار حميد إلى أن كوارث البيئة باتت تُصنّف بقسمتها الى تلك التي تحدث نتيجة الفعالية الصناعية للانسان، والتي تحدث بأثر النشاطات العسكرية. وبذا، تصنّف كارثة حلبجة بيئياً مباشرة بعد هيروشيما وناكازاكي. وتتميز حلبجة عن كارثتي هيروشيما وناكازاكي بأن النشاطات العسكرية وستخدام أسلحة الدمار الشامل، جاءت من قبل سلطات البلد نفسه، ضد مواطنيها. * أكاديمي عراقي مقيم في السويد