جوّ العيد يسود المعرض السنوي للسيارات في ديترويت، مدينة السيارات"موتاون"كما تسمى. ويخال المرء أن أيام الازهار انبعثت. فالحياة تسري مجدداً في شرايين مصانع ديترويت، بعد أن شارفت على"الموت"قبل عامين، وأوشك منظمو معرض السيارات على إلغائه. وفي العامين الماضيين، ارتفعت مبيعات السيارات في الولاياتالمتحدة 10 في المئة. وبلغ عدد السيارت المباعة 12.8 مليون مركبة. وحدها نسبة مبيعات السيارات في الصين تفوق النسبة الأميركية هذه. وعلى رغم أن نسبة المبيعات المحتفى بها لا تضاهي نظيرتها المسجلة في العقد الماضي، أي بيع نحو 17 مليون سيارة سنوياً، طويت الاجتماعات المناهضة لإلغاء الشركات الوظائف. فالمستهلكون يقبلون على الشراء، وأبرز المستفيدين هم ال"بيغ ثري"الثلاثة الكبار:"فورد"و"جنرال موتورز"و"كرايسلر" في ديترويت. ففي السوق الأميركية، ارتفعت مبيعات"فورد"17 في المئة. ونالت شركة"كرايسلر"التي تملكها"فيات"حصة الأسد من الأرباح، وارتفعت مبيعاتها 26 في المئة. والبيع لا يقتصر على موديلات السيارات الكبيرة، فثمة إقبال على شراء سيارات"شيفروليه كروز"الصغيرة وشاحنات"البيك آب"الكبيرة. وأكثر السيارات مبيعاً هذا العام هي سيارات فورد"إف سيريز"F-series، وهي نوع من شاحنة كبيرة بيعت منها نحو 600 ألف مركبة. وهذا دليل على أن عدداً كبيراً من الأميركيين الذين سرّحوا من العمل استعاد قدرته الشرائية، يقول خبير في قطاع السيارات. ولم يصب الرأي القائل بأن ارتفاع أسعار النفط والاحتباس الحراري سيحملان الأميركيين على تغيير عاداتهم واحتساب نتائجها. فحصة السيارات الهجينة من السوق لم تبلغ عتبة 3 في المئة، على رغم الدعم الحكومي. والإقبال كبير على سيارات"كروس أوفر"التي تجمع الشكل الرياضي إلى حجم سيارة ال"ستايشن"الكبيرة مثل"فورد إسكايب". ولم يضطر التجار إلى"كسر الأسعار"ولم يطلقوا حملات دعائية كبيرة. وقبل ثلاث سنوات، أعلنت"كرايسلر"و"جنرال موتورز"الإفلاس، وشارفت"فورد"عليه. ووراء معجزة اشتداد عود شركات السيارات الأميركية مجدداً مبادرة عدد كبير من الزبائن إلى شراء السيارات بعد إرجائهم مثل هذه الخطوة وقتاً طويلاً. وقد يكون انبعاث قطاع السيارات هذا مؤشراً إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية. ومنذ شهرين إلى اليوم، تميل معدلات البطالة إلى الانخفاض انخفاضاً بطيء الوتيرة، فيما المصارف استأنفت تيسير القروض. ويوم ضربت الأزمة الولاياتالمتحدة في 2008، لم يكن قطاع السيارات الأميركية في أحسن حال. وأهملت الشركات الأميركية سوق السيارات الصغيرة، ولم تحتسب منافسة الشركات الأجنبية لها في السوق المحلية. وافتقرت إلى استراتيجيات بيع، ولم تطور خبراتها. وأدت نقابة عمال السيارات دوراً بارزاً في ارتفاع تكلفة العمل اليومي إلى 72 - 76 دولاراً، في وقت لم تتجاوز التكلفة هذه 49 دولاراً في"تويوتا"و"هوندا". وحظرت النقابة على شركات السيارات صرف عمالها. وبعض كوادر الشركات هذه يتقاضى مكافآت سنوية مقدارها نحو 150 ألف دولار، على رغم أن السيارات الأميركية الباهظة الثمن كانت تخسر جمهور الزبائن على وقع ضعف قدرتها التنافسية في السوق. والبورصة لم ترحم شركات السيارات الأميركية، فاضطرت هذه إلى خفض الأسعار و"كسرها"، لكن ذلك لم يفلح في كبح الانهيار. وأزمة الرهون العقارية سددت الضربة القاضية إلى قطاع السيارات الأميركي. فانخفضت نسبة المبيعات 40 في المئة. وراكمت ال"بيغ ثري"الديون. وخسرت"كرايسلر"بليون دولار في شهر. ولم تملك الحكومة الأميركية غير المبادرة إلى إنقاذ القطاع هذا. ورجحت كفة العرض في المساعدات الحكومية على كفة دعم الطلب من طريق خفض الأسعار وإلزام الشركات إعادة الهيكلة. والمفاوضات بين الحكومة والشركات كانت حادة. وانسحبت"فورد"منها، وآثرت تدبر أمرها من غير مساعدة. وحصلت"جنرال موترز"و"كرايسلر"على مساعدات ضخمة بلغت 60 بليون دولار. ونظر الرأي العام الأميركي بعين الغضب والاستياء إلى المساعدات هذه. ولكن أوباما لم يتراجع أمام خطر خسارة 3 ملايين وظيفة. فالكارثة كانت على الأبواب. وفي أقل من 40 يوماً، اشترت"فيات""كرايسلر"، وأشرفت الحكومة على عملية إنقاذ"جنرال موتورز". وديون التقاعد والضمانات الصحية نقلت إلى نقابات العمال التي حازت أسهماً في الشركات. وإلى اليوم، تملك هذه النقابات 48 في المئة من"كرايسلر"و27 في المئة من"جنرال موتورز". وقلصت الشركات الرواتب إلى 19 دولاراً في الساعة للعمال الجدد و50 دولاراً للقدامى. وعلى رغم أن"فورد"انسحبت من الاتفاق الحكومي، التزمت هذه الإجراءات، وألغت 45 ألف وظيفة، وقلبت استراتيجيات شركات السيارات رأساً على عقب. وبدأ التصدي لمنافسة"تويوتا". واستعانت الشركات بمديرين أجانب. وتولى الإيطالي سيرجيو مارشيوني إدارة"كرايسلر"والفرنسي أوليفييه فرانسوا التسويق لها. ومدير"جنرال موتورز"، دانييل أكرسون، سبق له العمل في صندوق الاستثمار"كارليل". وآلن مولالي مدير"فورد"هو من قدامى"بوينغ"، وشطر راجح من فريق عمله أوروبي. وإثر ثلاثة أعوام على الأزمة وخطة الإنقاذ، تعولمت صناعة السيارات الأميركية، و"ما جرى لا يصدق ويرقى إلى ثورة ثقافية"، يقول كسافيه موسكيه. وتوقف عدد كبير من مزودي قطع السيارات عن العمل. ولم ينجُ منهم إلا نخبتهم. وساهمت الاستثمارات في مكننة العمل وزيادة الإنتاجية ورفع القدرة التنافسية. واليوم، حصة"جنرال موتورز"من السوق الصينية تفوق حصتها في السوق الأميركية. أوباما ربح التحدي، وانعقدت ثمار سياسته. وسددت"كرايسلر"ديونها للخزينة الأميركية قبل 6 سنوات من تاريخ استحقاقها، وهي تجني الأرباح، شأن"فورد"و"جنرال موتورز". ولكن هل سينجح قطاع صناعة السيارات في توفير فرص عمل كبيرة تعوض عن خسائر اليد العاملة؟ إن تحدي القطاع هذا اليوم، هو توظيف يد عاملة من أصحاب الكفاءات، يقول ديف كول. ففي الماضي، كان العمال من حَمَلة الشهادة الثانوية. واليوم، العمل في صناعة السيارات يفترض متابعة عامين من الإعداد الجامعي، والتغيير هذا يسري على كل الصناعات. * مراسلة، عن "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، 19/1/2012، اعداد م. ن.