لا يصدّق المعلّق أن أحداً قد يقول إن النظام السوري يقتل أطفالاً في سورية تماماً كما العدو الإسرائيلي قتل أطفالاً في لبنان. تمضي دقائق قبل أن يخط تعليقاً آخر، يستنكر فيه التشبيه ويذكّر محدثه بأن النظام السوري دعم المقاومة في لبنان لتنتصر في حرب تموز يوليو 2006 وأنه الآن يواجه مخططاً أميركياً - صهيونياً يحتم على المقاومة أن تقف إلى جانب من دعمها في وجه العدو الإسرائيلي بصرف النظر عن الثمن. يعود إليه الجواب مكتوباً بأن المقاومة واجب أخلاقي يقوم على نصرة المظلوم والمضطهد، وهي إذا فقدت هذه القيمة خسرت جوهرها لتصير أداة في يد داعمها. الحوار الدائر على صفحة رجل لبناني على موقع"فايسبوك"يشبه أي حوار آخر يدور منذ أكثر من عشرة أشهر في دكان ربما او سيارة أجرة أو بين مجموعة أشخاص على الكورنيش البحري أو في مقهى. وهو في ما خص الشأن السوري لا يقل حدة عن برامج تلفزيونية شهدت أعمال عنف لفظي وجسدي بين متحاورين مختلفين في تحليلهما لما يحصل في سورية. وكأنما أيقظت الثورة في سورية اهتماماً لبنانياً شعبياً في الشأن السوري كان توقف عند البعض مع انسحاب القوات السورية من لبنان وإقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، وعند آخرين أمام تهريب أو تسهيل تهريب الأسلحة إلى"حزب الله"ودعم فريق سياسي على حساب آخر، ليصير اللبنانيون معنيين أكثر من أي وقت مضى بتطورات الثورة في سورية وتفاصيلها بما فاق اهتمامهم بالثورات التي شهدتها بلدان عربية أخرى. يحمل اللبنانيون انقساماتهم السياسية الداخلية إلى صفحاتهم"الفايسبوكية"مزودين بمعرفة الواقع السوري مصدرها الجوار أولاً، وثانياً التاريخ الطويل للوجود السوري العسكري والأمني في يوميات اللبنانيين. فالحوار الافتراضي وإن بدأ ب"ستاتوس"على صفحة"فايسبوك"ضد الرئيس السوري بشار الأسد استنكاراً ل"الحل الأمني"للقوات السورية في حمص، تطور لتطاول تشعباته تاريخ الحرب اللبنانية والدور السوري فيها وحاضرها والمقاومة وتاريخها والحروب الإسرائيلية. واتسعت خلال ساعات قليلة دائرته لتضم أكثر من مئة وعشرين تعليقاً معظمها من أصدقاء افتراضيين لبنانيين. وتوزعت جميعها على النظريتين اللتين ينقسم حولهما الرأي العام في لبنان: الأولى تقول إن ما يجرى في سورية هو ثورة شعبية حقيقية تطالب بالديموقراطية وحقوق الإنسان بعد 41 سنة من حكم"حزب البعث"، والثانية تؤمن بالنقيض، فيكون ما يجرى في سورية مؤامرة لإخراجها من محور الممانعة وضرب المقاومة حزب الله وتفتيت المنطقة... وبينما تدور"الحرب الافتراضية"بين جماعتي 8 و14 آذار، حيث تقفل كل منهما على موقف حاد من الأزمة السورية بصفتها أزمة مصيرية، فهناك بالطبع حيز يتسع منذ بدء الثورة، يضم أفراداً لهم مواقفهم السياسية الواضحة في ابتعادها عن جماعتي الصراع، بل في خصومتها معهم، ومع ذلك، فإن هؤلاء الأفراد أعلنوا بوضوح وقوفهم ضد البعث وديكتاتوريته وقمعه الدموي. وهذا كان موقفهم المبدئي المستمر مع كل الثورات العربية الأخرى. وإن كان الأمر يختلف مع سورية هذه المرة، لأنها الأقرب في كل شيء، ولأنها الأشد دموية. في هذه الحرب، تظل حجج 8 آذار تبريرية وضعيفة مقارنة مع حجج خصومهم، بخاصة أن هذه القوى كانت هللت للثورتين التونسية والمصرية، كما أنها أيدت الثورة الليبية المسلحة والمدعومة من حلف"ناتو"، قبل أن ترتد إلى اتهام العقل الغربي"الشرير"بتخطيط وتنظيم مؤامرة عظمى لتغيير وجه المنطقة برمته. وهذه مؤامرة تبلورت شيئاً فشيئاً، مع اشتداد أزمة النظام في سورية، وشعور القوى اللبنانية المناصرة له بالخطر الداهم عليها. يرفض أحد المعلقين لبناني ما تبرزه محطتي"الجزيرة"و"العربية"الفضائيتين من أعمال عنف والقول إن الجيش السوري يرتكبها. ويسأل عما إذا كان"المطلوب من الجيش السوري الذي يقتل ضباطه وعناصره أن يقف متفرجاً". يكتب:"كفى إرهاباً فكرياً. فعلاً أسلوب 14 آذار نفسه. كل من يعارضهم يتهمونه بقتل الحريري ويناشدون المحكمة الدولية إدانته". ويضيف إليه تعليقاً آخر ينتقد فيه الثورة ال"مرتمية بحضن رايس. يا ليتها اشمئزت من الستين فيتو الأميركي لحماية إسرائيل". الرد على هذا التعليق لن يتأخر من لبناني آخر:"الفيتو الأميركي يشبه الفيتو الروسي. وأطفال سورية يشبهون أطفال فلسطين. لماذا نبرر للقاتل هنا؟ بصرف النظر عن 14 آذار والروس والفيتو الأميركي"، ويحتدم النقاش مع استحضار الخطر الإسرائيلي الذي"لم يطلق النظام السوري رصاصة في اتجاهه مع أن أرضه محتلة"، ومع نكتة تقول إن"حمصياً استيقظ صباحاً ولم يسمع صوت الرصاص، فظن أنه في الجولان"، ثم القول إن"ما يصيب الشعب السوري اليوم لا يختلف عما أصابنا أهل الجنوباللبناني من العدو الإسرائيلي. لكنْ، هل القتل حلال ما لم يكن على أيدي الإسرائليين؟". وتعليق آخر لإعادة النقاش إلى حيزه الإنساني:"إسرائيل عدوتنا منذ ما قبل وجود هذا النظام. ليس هو البوصلة، بل نحن. وبوصلتنا هي واجبنا الإنساني والأخلاقي بمناصرة القضية الفلسطينية التي هي قضية حق وشعب. وأيضاً بمناصرة الشعب السوري طالما أننا نراه مظلوماً. هذا لن يغير في واقع عدائنا لإسرائيل شيئاً". النقاش اللبناني المختص في الشأن السوري، لم ينأَ الأصدقاء السوريون الافتراضيون بأنفسهم عنه. فيحاول أحدهم تصويب البوصلة التي توجه المواقف من تطورات الثورة في سورية في اتجاه مصالح التحالفات اللبنانية، ليقول:"السوريون اليوم هم ضحايا ليس فقط للقتل، ولكن للصورة النمطية التي يحاول البعض إشاعتها عنهم كخزان للمتطرفين والعملاء والمشبوهين. أنتم كلبنانيين يجب أن تعرفوا أكثر من غيركم أن الشعوب دائماً على حق وأنها الأصل. أدعوكم للعودة إلى إنسانيتكم والتخفف من ثقل الأساطير". ولا يسلم المعلق السوري من اتهامات لبنانيين بأنه بمواقفه يقود بلاده لمصير مشابه لمصير العراق وليبيا مع أن السياسيين اللبنانيين جميعهم أيدوا الثورة في ليبيا. الشيعة ليسوا ضد الثورة الانقسام اللبناني لا يقف عند الحدود السياسية، بل يتعداها الى التصنيفات الطائفية والمذهبية، وإسقاطها كما في لبنان على الأزمة في سورية. إذ تحسم مشتركة لبنانية أن الهدف من الثورة في سورية إسقاط الرئيس العلوي لتنصيب رئيس سنّي، بينما يبرر آخرون ممن يجاهرون بولائهم ل"حزب الله"في لبنان ضرورة التمسك بالنظام السوري الحالي"للحؤول دون وقوع البلد الجار في أيدي التطرف الإسلامي"، فتطاولهم الردود من الباب نفسه إذ إن"حزب الله وإيران كليهما ليسا حزبين علمانيين بل هما حزبان دينيان عقائديان". النأي الذي لم يمارسه"حزب الله"وحلفاؤه في لبنان فيما خص التطورات في سورية، ورفضه تصنيفها في خانة الثورة الشعبية ودعمه المعلن للنظام السوري في ما يراه الآخرون"ارتكاب جرائم حرب"، وضع وفق تعليقات كثيرة لمشتركين لبنانيين شيعة على اعتبار أن حزب الله وحليفته حركة أمل تنضوي تحت جناحيهما الأكثرية الشيعية الشعبية الطائفة بأكملها في خانة العداء مع الشعوب الثائرة. فبعد أيام من الخطاب الأخير للأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله والذي تطرق فيه إلى الأحداث في حمص، أنشئت صفحة على"فايسبوك"حملت اسم:"لبنانيون من الجنوباللبناني مع ثورة أهلهم في سورية". وتقول مقدمتها التعريفية:"نحن مواطنون لبنانيون من الجنوباللبناني، من مشارب سياسية وفكرية مختلفة، عانينا الاحتلال الإسرائيلي والتهجير والنفي والحروب على مدى عقود، وعانينا كذلك ظلم الفيتو الذي كانت تستخدمه أميركا في مجلس الأمن لحماية جرائم إسرائيل ضد إخوتنا وأطفالنا، نؤكّد، وقوفنا إلى جانب الشعب السوري، وهو يُكمل السنة الأولى من عمر ثورته، ثورة الحرية والكرامة، وإسقاط الاستبداد وطي صفحة حُكم القمع القابض على سورية منذ أكثر من 40 عاماً. ونتوجّه إلى أهل مدينة حمص الذين استقبلوا كما الكثير من أهل المدن والبلدات السورية نازحين من قُرانا الجنوبية خلال حرب تموز، لنُحيّي صمودهم في وجه الهمجية ولنقول إن انتصارهم هو انتصار لجميع الأحرار". في اليوم الأول لإطلاق الصفحة، وقع أكثر من600 شخص من الجنوب والبقاع في شكل خاص على البيان المنشور. إلى جانب الاسم وضع كل من الموقعين اسم البلدة التي يتحدر منها وإعلانه دعم الثورة السورية. وبعضهم أضاف مواقف تستنكر ربط الطائفة بحزب واحد ومواقف تعبر عن الوفاء للشعب السوري الذي جاهر أهل الجنوب بأن بيوته فتحت لهم في حرب تموز، بينما لم تفتح بيوت كثيرة في لبنان. وتقول مشاركة:"نعتذر منك سورية الجريحة. نعتذر منك على تأخرنا وأنت التي آويتنا خلال حرب تموز. نعتذر منك إذ كان صوت الداعمين لقتل أطفال حمص وحماه ومن يسمون أنفسهم المقاومين أعلى من صوت الأحرار والشرفاء. لكن ليس بعد الآن". بينما أضاف موقّع آخر إلى اسمه تعليقاً:"من عاصمة التحرير والمقاومة بنت جبيل. منطق رفض الخضوع والإذعان يطبق على جميع الأنظمة العربية القمعية وليس فقط على إسرائيل". وتقول أخرى:"سألني متظاهر سوري اليوم في مهرجان منظمة العفو الدولية دعماً لسورية في ساحة ترفلغر في لندن من أين أنا فقلت له من جنوبلبنان. قال أنتم ضدنا لكن أنا رأيت بياناً موقعاً من مجموعة من الجنوبييناللبنانيين،"هذه بادرة جيدة، تعني أن ليس كلكم ضدنا". وتختتم المعلقة ما كتبته بكلمتين فرحتين:"الرسالة وصلت".