كرّر النظام السوري غير مرة إعلان قدرته على حسم معركة حلب في بضعة أيام، ولكن ذلك لم يحصل، ويبدو أنه لن يحصل. المعطيات عن تراجع قوة النظام العسكرية، يعرفها كلّ مدقق في إخفاقاته المتتالية في حلب وإدلب ودير الزور والبوكمال وكل المدن السورية حتى دمشق"والتي يتطلب فهم وضعها تأملاً عميقاً... فدمشق هذه دفعت فاتورة عالية الكلفة، منذ اشتداد ثورتها في الريف، حتى الشهرين المنصرمين. في هذين الشهرين، شنّ النظام أوسع عملية تدمير وقتل ومجازر، شملت كلاً من المعضمية وداريا والتضامن والحجر الأسود وأحياء أخرى، ويبدو أن المقصود من كل هذه العملية الفصم الكلي للمكون العسكري عن حاضنته الشعبية، والخشية من خروج حلب عن سيطرته وبقية مدن الشمال والوسط، وبالتالي محاولة مسك العاصمة بقوة بالغة، وهو ما سيضمن له طريق التفاوض! إن حدث ذلك في الأشهر المقبلة، لا سيما مع بدء الشتاء، وتزايدت خساراته في المعارك كما تبيّن كل المؤشرات، خصوصاً انه قد يكون هناك دعم إضافي للجيش الحر وتشكيلات المكون العسكري، عبر تركيا بالتحديد، فسيكون النظام أمام انسحاب كامل من سورية والتفاوض من خلال إحكام السيطرة على دمشق. طبعاً يتعمد النظام سياسة التدمير الشامل، وإفراغ مناطق الثورة الأساسية من سكانها، ومعاقبتهم بتدمير المنازل وحرقها، والإعدامات الميدانية، والقتل والاعتقال، وهو ما أدى إلى مؤشرات على انفكاك الحاضنة الشعبية للثورة عن الجيش الحر. ويتخيل النظام أنّه بذلك يكسر الثورة، ويخرج الجيش الحر من دمشق وريفها، وبالتالي يعيد الأوضاع إلى سابق عهدها. والحقيقة أن كل المناطق التي حاول فيها النظام ذلك، وحتى المناطق التي هُدئت جزئياً مثل الكسوة والضمير، لم يستطع إعادة الحياة فيها إلى سابق عهدها، ولم تقدم له الولاء والطاعة، وما الهدوء النسبي سوى نتاج الشعور ببطء نجاح الثورة وبثقل المعاناة عليهم وليس بسبب شعورهم بالفشل الكامل، وبالتالي العودة إلى الطاعة القديمة. أوضاع دمشق وريفها، ربما يلاحظ فيها خفوت نيران الثورة، تحت وقع الدمار والمجازر والاعتقال، ولكنها لا تزال ثائرة بأشكال متعددة عمليات عسكرية وتظاهرات وعودة السكان من جديد، وغير ذلك كثير...، ولم تعلن أية منطقة أية اتفاقية مستمرة مع النظام، أو مصالحة معينة عبر وزارة"المصالحة الوطنية"أو غيرها، بل إن الاتفاقيات التي يجرى الكلام عن حدوثها، هي مجرد تهدئة تتم ضمن فعاليات شعبية ورجال أمن، وقد يتدخل فيها بعض الأفراد النافذين وحتى وزير المصالحة هذا، وهذه أمور لطالما حدثت وخُرقت لاحقاً. من جراء ذلك، يشعر كثير من المثقفين والسياسيين باليأس والتشاؤم وانعدام الثقة. وهناك أسباب أخرى، مفادها ان المثقف من طبيعته التشاؤم والتسرع ونمذجة الواقع وفق مخيلته! هذا العقل يفصل بين دمشق وما يحصل في سورية. ولو نظرنا إلى وضع دمشق في إطار الثورة ككل، سنجد أن ما يحصل هو جراء سياسة الدمار الشامل فيها وفي ريفها، وهو ما لن يستطيع النظام الاستمرار فيه لاعتبارات الكلفة والقدرة والاستمرارية، ولكن كذلك بسبب انسحاب جزء مهم من المكون العسكري لمصلحة معركة حلب... ما يعني أن الثورة لا تزال تتصاعد، وفي الشهر الأخير، انتقلت إلى سياسة تحرير مناطق بأكملها. * كاتب سوري