إذا كان القول السائر إن لكل امرئ من اسمه نصيباً صحيحاً، فإن"رضوان وأبا الرضا ومولانا"هي وجوه متنوعة لشخصية المفكر اللبناني رضوان السيد الفريدة، إذ هو في الحق والحقيقة شخصية عذبة وراضية ومكتفية وراعية، لا يكل ولا يمل من تقديم الخدمات المعرفية والشخصية لمن يعرف ومن لا يعرف. هكذا اختصر مقدّمو كتاب"الأمة والدولة والتاريخ والمصائر، دراسات مهداة إلى الأستاذ رضوان السيد بمناسبة بلوغه الستين"الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2011 شخصية رضوان السيد الثرية والمميزة، إلا أن هذه الكلمات وإن كانت تعبر تعبيراً حقيقياً عن سمة بارزة من سمات الرجل إلا أنها لا تفي بكل سماته الأخرى التي لا تقل غنى وثراء. فرضوان السيد يمكن أن يوصف في رأينا ب"المناضل الفكري والمجاهد والأكاديمي"حيث عبر منذ صباه عن الالتزام بالنهوض والتقدم العربيين والدفاع عن تراث الأمة العربية وقضاياها الكبرى. قال في مقالته الأولى عام 1969 وكان في العشرين من عمره"قضيتنا الواحدة الدائمة ذات الأولوية: كيف نفهم تجربتنا الحضارية التاريخية في سياقاتها، وكيف نبني حاضراً معاصراً ومتقدماً لإنساننا وأمتنا، مع العالم وفيه؟". في هذا السياق بالذات جاءت مساهمة السيد في مجلة"الفكر العربي"التي صدرت عن معهد الإنماء العربي ببيروت عام 1977 وقد تولّى رئاسة تحريرها لمدة خمس سنوات ونيف فحولها إلى منتدى فكري ونقاشي بالغ العصرية والعمق في مجالات العلوم الإنسانية، بحيث أصبح كل عدد من أعداد المجلة كتاباً"متخصصاً"في موضوع يساهم فيه كبار الدارسين العرب والأوروبيين، من الجامعة الفكرة والدور، إلى المدينة العربية والمدينة العالمية، والاستشراق والانتروبولوجيا، والدولة والأسطورة، والعرب والعالم، والدين والدولة، ومصائر التجربة السياسية العربية الحديثة. هذا الأفق المعرفي ما لبث أن بلغ ذروة غير مسبوقة في مجلة"الاجتهاد"التي أصدرها السيد مع الفضل شلق منذ عام 1988 وحتى عام 2004، حيث مضى الباحثان بعيداً في الآفاق الحرة، فتحوّلت كل المسائل إلى إشكاليات تعرض بأحدث المناهج، وصارت موضوعات الحضارة الإسلامية، والعلاقات الإسلامية المسيحية، والانحطاط الحضاري، وعلاقات الشرق بالغرب، والنظام العالمي، فضلاً عن الهم الدائم بالاجتهاد والتجديد والنهوض، مجالاً شاسعاً للتأمل والتفكير والنقد والمراجعة. ومنذ عام 2004 انصرف السيد للعمل مستشاراً للتحرير في مجلة"التسامح"بعمان وهي إلى اليوم في طليعة المجلات الفكرية العربية والإسلامية. تخرّج السيد في المعهد الديني عام 1966 وانتسب إلى كلية أصول الدين في جامعة الأزهر وتخرج فيها عام 1970، ثم إلى جامعة توبنغن بألمانيا حيث أمضى خمس سنوات حصل في نهايتها على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 1977. وقد مكّنته التجربة الألمانية من التعرف إلى المنهجيات الحديثة وزوّدته بالتقنيات التي استعملها ولا يزال في أعماله الفكرية الإسلامية والعامة. أراد السيد كتابة تاريخ مفهومي للفكر الإسلامي الوسيط أو تاريخ للأفكار في مجالات التفكير بالجماعة والمجتمع والدولة. وقد أقبل منذ البداية على نشر نصوص سياسية وكلامية وكتابة البحوث حولها، وكانت تملأه منذ ذلك الحين فكرة الحوار بين النص والعقل والجماعة في التجربة التاريخية العربية الإسلامية. وفي التسعينات بلغت دراساته في التاريخ المفهومي والسوسيولوجيا التاريخية وعلاقات الدين بالدولة مرحلة متقدمة في دراسته الرئيسة في هذا المجال بعنوان"الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الأيديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي". اسئلو الفكر التحولات في الرؤى والاهتمامات والمناهج لدى السيد التي ظهرت وتتابعت في التسعينات، إنما حدثت خلال عمله أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الأميركية بين عامي 1993 و2003. وتبلورت في هذه السياقات رؤيته إلى الظاهرة الاسلامية في كتابه"الظاهرة الإسلامية المعاصرة"1997، حتى إذا انفجرت أحداث أيلول 2001 أجاب عليها بكتابه"الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية". وقد أعلن قبل ثلاث سنوات عن مشروعين شاملين لا يزال منهمكاً بهما أولهما عن أهل السّنّة في الدين والفكر والاجتماع والتاريخ، وثانيهما في التاريخ الثقافي العربي الإسلامي. ولا يزال مشروعه، وهو على مشارف الستين، وقد صار أحد أبرز المثقفين العرب المعاصرين، في أوج ألقه. فعلى رغم الانكسارات والتصدعات من حوله ومن حولنا تظل فكرة الأمة عماد ذلك المشروع ويبقى مهموماً حتى العظم بقضايا هذه الأمة وتحولاتها ومشكلاتها ووجوه تعبيراتها عن تجربتها في العالم في التاريخ والحاضر. لا بد إذاً، كما يقول السيد،"من حركة للإصلاح الديني من ضمن نهوض ثقافي عربي وإسلامي. ولا يعني ذلك الرجوع إلى أطروحة تنويريي القرن التاسع عشر بحذافيرها، بل البناء على الروحية التي انطلقوا منها باعتبارنا جزءاً من العالم ونريد المشاركة في تقدمه وأمنه وصنع حاضره ومستقبله. ومظلتنا مقاصد الشرعية التي تهب مطامحنا ومصالحنا الإنسانية طابعاً أخلاقياً مسؤولاً". تلقى المثقفون العرب مساهمات رضوان السيد في الفكر السياسي العربي المعاصر بالتقدير الذي تستحقه، ففي رأي أحمد محمد سالم أن معظم الباحثين العرب الذين جاؤوا من بعده يدينون بالفضل له، بسبب تحقيقاته القيمة في مجال الفكر السياسي الإسلامي بصفة عامة، ومجال الآداب السلطانية بصفة خاصة، لتفادي منهجيته في"حوارية النص والتاريخ"أخطاء المنهجيات السائدة في دراسة نصوص الفكر السياسي الإسلامي. وفي رأي كمال عبداللطيف أن السيد صاغ إشكاليات الخطاب السياسي في الإسلام، انطلاقاً من إيمانه بوجود منظومة سياسية متكاملة، خلافاً لكثير من الآراء الاستشراقية التي تنفي وجود مثل هذه المنظومة ولا ترى في المنتوج السياسي الإسلامي أي جهد في البناء والإبداع. وفي رأي عبدالله السيد ولد أباه أن رضوان السيد سبق محمد عابد الجابري وبرهان غليون وهشام جعيط وعبدالله العروي في الاهتمام بالبحث السياسي الوسيط، سالكاً مسلكاً مغايراً للجابري في منهجه الذي يجمع بين التحليل البنيوي والتأويل الأيديولوجي، ومختلفاً عن غليون في تحليله السوسيولوجي، وعن جعيط في تناوله التاريخي لبواكير التصدع السياسي في الأمة، وعن العروي في مقاربته التاريخية التي تختزل الفكر السياسي الوسيط في طوباوية الفقهاء. أما وجيه كوثراني فقد رأى أن رضوان السيد الأزهري المقتدر في استجماع نصوص الذاكرة التاريخية من طبقات المصادر الإسلامية، والباحث المدرّب على طرائق الاستشراق، لا سيما الاستشراق الألماني يتقدم في جهده التوليفي والتوثيقي مؤرخاً للأفكار والثقافة السياسية من نوع جديد، فلا هو الأزهري الكلاسيكي الذي يخلط الأزمنة التاريخية كنموذج دعوي إسلامي خالص، ولا هو المستشرق البارد المصطنع للمسافة الفاصلة بين الذات والموضوع، بل هو ينتمي إلى الجيل الرابع من المؤرخين العرب، الجيل الذي يطمح إلى تجاوز التركيز على جانب واحد من التاريخ العربي الإسلامي أي الجانب السياسي أو الجانب الاقتصادي أو جانب الأيديولوجيا. وتكمن أهمية رضوان السيد في نظر محمد الحداد في تحليله ديناميةَ الترابط المنطقي بين العصر الحديث الذي حوّل الإسلام السائد إلى إسلام تقليدي، والتوظيف السياسي للإسلام الذي قسّمه إلى إسلام حركي وإسلام محافظ، والفشل السياسي لحركات الإسلام الإحيائي الذي دفع إلى ظهور الإرهاب. والسيد كان من أوائل الذين نبهوا إلى أن العنف الديني قد يأتي من خارج الإطار الديني التقليدي وقد يكون نتيجة الحداثة ذاتها، ففي رأيه أن الإحيائية الإسلامية الحديثة، وربيبتها الأصولية المعاصرة، لم تخرجا من المدارس والجامعات الدينية الإسلامية، فالمودودي ليس رجل دين وكذلك حسن البنا، وكذلك الكوادر الرئيسة في الجماعة الإسلامية بباكستان والإخوان المسلمين بمصر، وأسامة بن لادن هو خريج كلية التجارة أو إدارة الأعمال، وزميلاه في زعامة التنظيم أحدهما طبيب الظواهري والآخر ضابط سابق محمد عاطف. لقد فهم السيد أن قضية المجتمعات العربية الإسلامية لا تختزل في صورة مجتمعات متجهة نحو الحداثة ومؤسسات دينية تشدها إلى الوراء أي الصورة المستمدة من التاريخ الأوروبي، بل في قضية الأصولية التي تشلّ المؤسسة الدينية والمجتمع في آن واحد. لكن من سيقوم بالإصلاح؟ مهمات مثل الإصلاح الديني لا بد لها في رأي السيد من مؤسسات وهذا غير متوافر ولا يبدو أنه سيتوافر قريباً. وهنا مأزق الإسلام الحديث: ثمة أشخاص يتحدثون به ويتصارعون لتمثيله وآخرون يتحدثون عنه، لكن قليلين هم الذين يتحدثون إليه ويعملون على تنويره من الداخل وبمقتضى مقولاته ومفاهيمه كي يستجيب لمقتضيات العصر الحديث، كما استجاب في قرونه الأولى لمقتضيات الثقافة الهلنستية السائدة آنذاك. في رؤية ختامية نرى أن أهمية الكتاب لا تكمن في أنه أنصف واحداً من أبرز المفكرين والمثقفين العرب فحسب، بل في الإضاءة على إشكاليات الأمة والدولة والتاريخ التي كان للسيد مساهمة أساسية ومركزية في إعادة التفكير فيها من جديد ومن منظور بحثي تاريخي تميز بالعمق والجدية والرصانة.