أخذنا سهيل في مماته الى حيث لم يستطع في حياته. كانت البلاد مقسّمة، والحروب على أشدّها، وجبيل بعيدة جداً كأنها في"دنيا" أخرى. حتى سهيل نفسه لم يكن يومها قادراً على زيارة قريته"جاج"في أعالي جرود جبيل اللبنانية، حيث لم يعد ثمة متسعٌ آنذاك لكل معارض لليمين اللبناني وسياساته او لكل حالم رومانسي بالتغيير الذي تكسرت أمواجه على صخور الطائفيات العاتية. ما عليه، ما لنا وللسياسة الآن. مشينا وراء نعش سهيل في الطريق الجبلية الوعرة نذرف دمعاً عليه ونكتشف بلاداً هي بلادنا، وجبالاً لا تزال تنطبق عليها مقولة"لبنان يا أخضر حلو"، وقرى لا تقل إهمالاً وحرماناً عن قرانا في الجنوب والهرمل والضنية وعكار، رغم الانطباع الشائع خطأً أن الحرمان في لبنان وقفٌ على فئات ومناطق دون سواها، لكن الواقع أن ثمة شريحة من كل الفئات تنعم بكل خيرات البلد على حساب شرائح من كل الفئات أيضاً، لكن الانقسام العمودي الطائفي والمذهبي يُخفي الحقائق ويطمسها ويحرفها عن مسارها البديهي والمنطقي، فيتصارع الفقراء في ما بينهم نيابةً عن الأغنياء الذين يتقاسمون البلاد و"العباد". هناك في أعالي جرود جبيل، التي نكتشفها ونعانق جمال طبيعتها العذراء البكر، نفهم أكثر طبيعة سهيل عبود الخفرة المتواضعة الهادئة بلا مهادنة، المسالمة بلا مساومة، المحترَمة بلا تخلٍّ عن الحس النقدي الصريح الصارم. كذلك نفهم كيف ينمو اليسار الانساني -لا الأيديولوجي- باعتباره مبشّراً بقيم الخير والحق والجمال في بيئة حاضنة تتماهى معه وتتباهى، قبل أن تحوّلها الحروب الأهلية الخاطئة قسراً عن مجراها الصواب وانتمائها الطبيعي لتغرس فيها نباتاً صناعياً لا يرتعش لهبّة عطر أو نسيم روح. زيارة أخيرة له وأولى لنا. كأن ذاك العذب الراقي الشفّاف يأبى إلاّ أن يرشدنا الى مكامن الجمال في بلادنا حتى ما بعد الرمق الأخير. لكننا ونحن نودع سهيلاً نشعر أننا نفقد بعضاً من رمق البلاد الحي النضر الذي يتلاشى تباعاً تحت وطأة اليباب الطائفي والمذهبي، فالرجل كان من تلك القماشة النفيسة النادرة التي لم تنل منها ثقوب التعصب والغلواء والتطرف والتحريض، رغم أنه كان صاحب مواقف واضحة صريحة شجاعة جريئة، وشتان ما بين الشجاع والمتطرف، الأول لديه ما يكفي من الثقة والعنفوان لقبول الآخر والفرح به والاختلاف الحضاري معه، فيما الثاني جبانٌ ينتحل صفة الشجعان، يمنعه جبنه وخوفه من قبول الآخر والاقرار بحقه في الوجود والحياة، فيلجأ عن ضعف لا عن قوة، الى الرفض والتكفير والتخوين والإلغاء. كل من عرف سهيل عبود أحبه، سواء أكان ذلك في مرحلته البيروتية في جريدة"النداء"، حيث عملنا معاً في أقسى الظروف وأصعبها بين العامين 1986 و1991، تلك السنوات العجاف -من ناحية- بحروب الزواريب والأزقة وصراع المليشيات و"الإخوة الأعداء"، السمان -من ناحية أخرى- بوجود أمثال سهيل معنا وبيننا، يَبثُّ الأملَ والتفاؤلَ والطمأنينةَ بابتسامة خَفرة وكلمة"بسيطة"مهما كان الحدث جللاً أو عظيماً، أو في مرحلته الكويتية، في"القبس"، التي أعطته ضيافة رحبة ومودة عارمة فأعطاها قبساً من خبرته وحنكته ومعرفته العميقة بشؤون المهنة وشجونها، الى جانب زملاء وزميلات بادلوه حباً بحب، وحبراً بملح، وغربةً بصداقة. وكم يطيب ويصعب في آن عشقٌ يجمع الغرباء في أوطانهم بالغرباء عن أوطانهم، بحيث يغدو محاولةً لجعل القلب وطناً بديلاً؟؟ لماذا نكتب عن زميل رحل قد لا يعرفه كثيرون؟ وماذا يجدي الحبر والدمع بعد الغياب؟ نكتب لنشهد للإنسان، لانتصار الإنسان على كل هوى، لإنسانية الإنسان التي تبقى جوهر كل مهنة. سهيل عبود مثال لابن المهنة، الذي غالب دنياه ومهنته وصارع أهواءها وغواياتها الكثيرة، وظل كما خرج يوماً من تلك القرية الجبلية النائية في أعالي جرود جبيل، نقياً كنسمة شفيفة مملحة بهواء الأبيض المتوسط، الذي نمنحه بياض قلوبنا ويهبنا زرقة سماء نرفعها على أعمدة الحلم والأمل الذي لا يخفت، بوطن يليق يوماً بأمثال سهيل، سواء أكانوا تحت التراب أو فوقه.