كلما طال أمد الصراع العسكري، كلما تعرضت الأهداف المعلنة للمعسكر المناهض للقذافي للخطر أو التقويض. أعداد الضحايا واللاجئين من المدنيين في ارتفاع مستمر. ومع تعمّق الانقسامات بين الشرق الذي تهيمن على معظمه المعارضة والغرب الذي يسيطر على معظمه النظام، فإن البلاد تنقسم فعلياً إلى منطقتين مختلفتين سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ونتيجة ذلك، يستحيل على تيار الرأي العام المطالب بالديموقراطية في المناطق الحضرية في معظم غرب ليبيا وطرابلس على وجه الخصوص التعبير عن نفسه وأن يرمي بثقله في الميزان السياسي. سيشكل كل هذا، إضافة إلى ازدياد المرارة لدى كلا الجانبين، تركة ثقيلة لأية حكومة في مرحلة ما بعد القذافي. وعلى نحو مماثل، تمثّل الحملة العسكرية الطويلة الأمد وحالة عدم الاستقرار الملازمة لها تهديدات استراتيجية للدول المجاورة لليبيا. فإضافة إلى تفاقم أزمة اللاجئين على نطاق واسع، فإنها تزيد من مخاطر تسلل تنظيم"القاعدة"في بلاد المغرب الإسلامي، حيث له شبكات من الناشطين في الجزائر ومالي والنيجر، والتي تتقاسم حدوداً طويلة مشتركة مع ليبيا. إن الإصرار على رحيل القذافي كشرط مسبق لأية مبادرة سياسية يعني إطالة أمد الصراع العسكري وتعميق الأزمة. بدلاً من ذلك، ينبغي أن تعطى الأولوية لضمان التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار والتفاوض في شأن الانتقال إلى نظام سياسي لمرحلة ما بعد القذافي. ليس هناك شك في أن ليبيا تحتضر، وأن شكلاً مختلفاً تماماً للدولة، دولة تتيح الحريات السياسية والمدنية، من شأنها أن تبدأ في تلبية الرغبة العارمة في أوساط الليبيين لتشكيل حكومة تمثلهم وتخضع للقانون. ولكن لن يكون إيجاد طريقة للخروج من المأزق التاريخي الذي صنعته أيدي القذافي مسألة سهلة أبداً. ينشأ طابع الأزمة الليبية اليوم من التأثير المعقد، والذي لا يبدو حاسماً حتى الآن، للتدخل العسكري الذي فرضته الأممالمتحدة، والذي يقوده حلف شمال الأطلسي رسمياً، فيما أصبح فعلياً حرباً أهلية. لقد أنقذ تدخل الحلف المعسكر المناهض للقذافي من هزيمة فورية، ولكنه لم يحسم بعد الصراع لمصلحته. ونظراً الى تصاعد كلفته السياسية والبشرية فإن التقييمات المتراخية التي تقول إن استمرار الحملة العسكرية الحالية أو رفع وتيرة الضغوط سيفضيان إلى تنحية القذافي بالقوة وخلال وقت قصير تعكس رفضاً لإعادة النظر في الإستراتيجية الحالية أو لوضع البدائل. إن الافتراض بأن الوقت في مصلحة المعارضة، وأن ذخيرة أو وقود أو أموال النظام ستنفد قريباً، أو ستتم الإطاحة به من خلال انقلاب من داخل الدائرة المحيطة به، ما هو إلاَ إحلال للتمني مكان الصياغة الجدية للسياسات. على رغم أن مثل هذه التوقعات قد تكون صحيحة، ومن الصعب تقدير ذلك نظراً الى عدم وجود تقديرات موثوق بها لموارد القذافي، فإن من شبه المؤكد أن الوقت ليس في مصلحة الشعب الليبي. إن لم يتم العثور على وسيلة لحض طرفي النزاع المسلح على التفاوض على تسوية تفضي إلى انتقال منظّم إلى مرحلة ما بعد القذافي وإلى دولة ما بعد الجماهيرية، فإن الآفاق المستقبلية لن تكون مبشّرة، ليس بالنسبة الى ليبيا وحسب وإنما أيضاً لشمال أفريقيا ككل، ولبلدان الساحل تشاد ومالي والنيجر كذلك. إن تحقيق اختراق سياسي يمثّل أفضل سبيل للخروج من الوضع المكلف الذي سببه المأزق العسكري. ويتطلب هذا وقفاً لإطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية من دون قيود إلى جميع المناطق داخل البلاد، وأن يخضع تطبيق ذلك لمراقبة قوات حفظ سلام دولية بتفويض من الأممالمتحدة. كما يجب أن يكون ذلك مصحوباً بمفاوضات مباشرة بين ممثلي النظام والمعارضة للتوصل إلى اتفاق على الانتقال السلمي إلى نظام سياسي جديد أكثر شرعية. كما تتطلب مثل هذه النتيجة أيضاً مشاركة طرف ثالث موثوق به من قبل الطرفين، وحتى الآن يبقى عدد اللاعبين محدوداً. إن اقتراحاً سياسياً مشتركاً من الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، اذ تحظى الأولى بقبول أكبر لدى المعارضة، فيما يفضل النظام الطرف الثاني، يمثل أحد السبل التي من شأنها أن تفضي إلى مثل هذا الاتفاق. ولكن لا يمكن تحقيق ذلك قبل أن تعيد قيادة الثورة ومنظمة حلف شمال الأطلسي النظر في موقفهما الحالي. إن المطالبة المتكررة"بوجوب رحيل القذافي"تخلط بين هدفين مختلفين تماماً. فالإصرار على أنه لا يمكن أن يكون له أي دور في النظام السياسي في المستقبل شيء، ومن شبه المؤكد أنه يعكس رأي غالبية الليبيين وكذلك العالم الخارجي. لكن الإصرار على وجوب رحيله كشرط مسبق لأية مفاوضات، بما في ذلك وقف إطلاق النار، يجعل وقف إطلاق النار ضرباً من المستحيل ويزيد من احتمال استمرار الصراع المسلّح. وفي نهاية المطاف يمثّل الوقف الفوري لإطلاق النار الإجراء الوحيد الذي يتفق مع الغرض المرجو من تدخل حلف"الناتو"وهو حماية المدنيين. وستكون مسؤولية المجتمع الدولي عن المسار الذي ستأخذه الأحداث كبيرة جداً. فبدلاً من المحافظة على السياسة الحالية بعناد والمخاطرة في أن تعم الفوضى الخطيرة في أعقاب الأحداث الحالية، ينبغي أن يتحرك المجتمع الدولي الآن لضمان التوصل إلى إنهاء الحرب الأهلية وتسهيل الشروع في حياة سياسية جديدة في ليبيا. * رئيسة مجموعة الأزمات الدولية والمفوضة السامية السابقة لحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة