الصين اليوم ليست حالها بالأمس. فمصرفان من أكبر مصارف العالم الاربعة، صينيان وتتولى الدولة ادارتهما. وشركتان من كبرى شركات النفط العالمية العشر صينيتان كذلك. ومن يملك القوة الاقتصادية يباشر نفوذاً استراتيجياً نظير قوته. وتضطلع الصين بدور كبير في افريقيا وأميركا اللاتينية. ويذهب ستيفن هالبير في كتابه"اجماع بكين"بايزيك بوكس، 2010 الى ان الصين تجسد اكثر التحديات جدية منذ تحدي الحرب الباردة والنزاع السوفياتي ? الاميركي طوال نصف قرن. وفي عنوان كتاب هالبير الفرعي، وهو"كيف يبسط النموذج الصيني غلبته على القرن الواحد والعشرين"، يستوقف القارئ يقين الكاتب بأن الصين صارت نموذجاً أو مثالاً. وينهض هذا المثال على سيطرة الدولة على قطاعات كاملة وعريضة من الاقتصاد اذا لم تكن الدولة هي صاحبة هذه القطاعات. وتتولى الدولة دعم القطاعات من موارد التمويل العام، ولا تحجم عن التلاعب بسعر صرف العملة في سبيل تيسير التصدير بأسعار رخيصة. وعلى مقتضى المثال، تنشئ الدولة صناديق سيادية تستحوذ بواسطتها على شركات غربية، وتبسط نفوذها على الاسواق. وتعقد اتفاقات مع دول استبدادية ومتسلطة تلبي حاجاتها الى النفط والى موارد طبيعية وحيوية أخرى. ولعل ركن المثال المفترض هو الثقة في"يد"الدولة بديلاً من قرارات اصحاب الاعمال الخاصة في اطار السوق. ويزعم يان بريمير، في كتاب آخر موسوم ب"نهاية السوق الحرة ? لمن النصر في الحرب بين الدول وبين الشركات؟"بورتفوليو، 2010، ان نفوذ الدولة وسلطانها راجعان الى سابق عهدهما، وهما يتهددان الاسواق الحرة ومستقبل الاقتصاد العالمي بالأفول. ونشرت صحيفة"وول ستريت جورنال"اخيراً مقالاً تناول خلخلة"رأسمالية الدولة"الصينية اقتصاد العالم من أركانه. ولا شك في أن ما سمّاه دينغ شياوبينغ، في 1978،"الاشتراكية في خصائصها الصينية"يتحدى مناهج الغرب في السياسة والاقتصاد. ويبدو أن خالفي ماو تسي تونغ أنجزوا بناء اقتصاد منافس وفاعل في اطار نظام حزب واحد. ويستقر البناء على عقد اجتماعي جديد يدعو السكان الرعايا الى خوض غمار الاقتصاد والاستثمار والربح، على شرط واحد هو النزول عن السياسة للحكام. والحق أن روسيا وكمبوديا ودولاً اخرى سارت على طريق تسلط الدولة. وهذه الطريق تعج بالمشاة السالكين. وعلى رغم انقلاب الصين من حال الى حال، فهي لا تزال بلداً فقيراً يبلغ ناتج الفرد الاجمالي المحلي فيه 3 آلاف دولار في 2008. وتقدر دراسة"كارنيغي اندوامينت"بلوغ ناتج الفرد، في 2050، نحو 33 ألف دولار، وهو مستوى اسبانيا اليوم. ولكن هالبير وبريمير وغيرهما من المحللين يخطئون المقارنة بين الصين والدول الغربية. فالمثال الرأسمالي الغربي الذي يقول هؤلاء ان المثال الصيني ينافسه، وهو على وشك تجاوزه وإبطاله، هذا المثال الغربي لا وجود له إلا في تقارير صندوق النقد الدولي. ففحص التاريخ الاقتصادي في بريطانياوالولاياتالمتحدة لا يقود الى اثبات دور المبادرة الفردية الحرة، بل الى اثبات دور الدولة الراجح. وعلى هذا، ليس نهج الدول الناشئة انقلاباً على النهج الغربي. ولا تعدو الدول الناشئة سرقة بعض حيل الدول الغربية. فبريطانياوالولاياتالمتحدة لم تنصّبا السوق الحرة مثالاً إلا بعد بنائهما صناعات قوية ومتينة في مستطاعها التغلب على منافساتها المحتملة. ومنذ القرن الرابع عشر م، حظر ادوارد الثالث استيراد أقمشة الصوف من بلجيكا وهولندا، البلدين المتصدرين سوق النسيج. ولم تنفك السياسة الاقتصادية البريطانية تحمي صناعات الانسجة القطنية والصوفية طوال القرون اللاحقة. وضربت رسوم ثقيلة على صادرات الصوف الخام لأجل حمل التجار البريطانيين على الاستثمار في صناعة الالبسة، وجني الارباح الكبيرة. وفي 1721، فرض رئيس الوزراء روبرت ويلبول رسوماً جمركية على السلع المصنعة كلها، ورفع حاجزاً عالياً يحمي قطاعات صناعية هي محرك الثورة الصناعية. وحين مدح وارثو آدم سميث، بعد قرن من اجراءات ويلبول، السوق الحرة كانت بريطانيا لا تزال تفرض رسوماً جمركية على بعض السلع هي الاغلى في العالم، ولا تقل عن 50 في المئة. ودامت هذه الحال الى 1860، حين بلغت صناعات النسيج والصلب وغيرها مستوى تنافسياً عالمياً. والقول إن بريطانيا ارتقت مكانة القوة الاقتصادية الغالبة من طريق السوق الحرة هراء ومغالطة. وفي اثناء الحرب البريطانية ? الاميركية، في 1802 ? 1815، وكانت النزاعات الاقتصادية من اسبابها، عمد الكسندر هاميلتون الى زيادة الرسوم على استيراد السلع المصنعة ضعفين، وجعلها 25 في المئة. وبلغت 40 في المئة بعد أعوام قليلة. ورفعها ابراهام لنكولن الى 50 في المئة. وفي غضون نصف القرن تولى الحزب الجمهوري الرئاسة من غير انقطاع، وحافظ على مستوى رسوم بين 40 و50 في المئة هي بين أعلى الرسوم الجمركية في العالم. ومكّن هذا الاقتصاد الاميركي من منافسة بريطانيا وألمانيا في ميادين مثل التعدين والكيمياء، وأمّن اكتساح البلدين الصناعات الناشئة. وإدراج ويلسون التجارة الحرة بين بنود سياسته الخارجية ال14 لم يؤدِّ الى تخفيض الرسوم الجمركية الاميركية. والرسوم على بعض المنتجات الزراعية المصنعة مثل السكر والايثانول لم تلغ الى اليوم. ويعاب على الصين وكوريا الشمالية وبلدان ناشئة أخرى استعمال مال الدولة ونفوذها في خدمة صناعاتها الوطنية وحمايتها من الصناعات الاجنبية المنافسة. ويسمى هذا النهج الحمائي"سياسة صناعية". وهي سياسة انتهجتها فرنسا غداة الحرب الثانية، في مستهل الجمهورية الخامسة الديغولية. ويومها بادرت الدولة الفرنسية الى تشييد صناعات قوية في قطاعات النقل والطاقة والفضاء وغيرها من القطاعات الاستراتيجية، ومهدت هذه السياسة الارادوية الى بروز كبيرة مثل ايرفرانس الطيران المدني وشركة سكك الحديد الوطنية SNCF وكهرباء فرنسا EDF وشركة النقل الجوي المختلط EADS وكلها ملك الدولة أو الدولة شريك في ملكها. ولا يزال الرئيس ساركوزي على النهج نفسه. وهو سارع الى انقاذ شركة الهندسة الكبيرة"ألستوم"، وحمل مختبري"أفينتيس"و"سانوفي"على الاندماج تفادياً لعملية استحواذ عليهما. وتشبه سياسات الحماية والدعم والتمويل والتنسيق والتحكيم التي انتهجتها الرأسماليات الغربية، الاوروبية والاميركية، نظيراتها الآسيوية الشرقية المعاصرة، في اليابان وكوريا وتايوان في اعقاب الحرب الثانية، شبهاً شديداً. وتولت الدول، في الغرب الاوروبي والاميركي، الاستثمار في البنى التحتية، وغرفت من المال العام، ورعت شركات سكك الحديد التي اضطلعت بدور راجح في التوسع الاميركي صوب الغرب، وفي إعمار السهول الكبيرة. وأغدقت القروض والارض على المستثمرين. ويتولى"البنتاغون"اليوم شطراً كبيراً من الاستثمارات في الابحاث العلمية والتطوير الصناعي. وصناعات التصدير الاميركية الثلاث الاولى، صناعة النقل الجوي المدني والطيران العسكري والتكنولوجيا الالكترونية، هي وليدة الاستثمار العام في الابحاث والتطوير. ووزارة الدفاع الاميركية زبون لا غنى عنه لشركات"بوينغ"و"لوكهيد"و"هانيويل"الرئيسة. ويسرع الكونغرس الى إعمال حق النقض الفيتو حين تنافس شركة أوروبية كبيرة قطباً اميركياً كبيراً، شأن ترشح"إيدز"الى صناعة طائرات التموين في الجو. وانتهك انقاذ"جنرال موتورز"و"كرايزلر"قواعد منظمة التجارة العالمية من غير حرج. ويُلوَّح بانتهاك الصين هذه القواعد حين تلتزم"ديزني"و"تايم وارنر"إشراك شركات محلية في التوزيع. ولم يحل هذا دون بيع شركات اميركية كبيرة مثل"جنرال موتورز"مليون سيارة في السوق الصينية من طريق وكالة محلية. وفاقت مبيعات الشركة الاميركية في السوق الصينية مبيعاتها في السوق الاميركية، في 2010. وفي ضوء هذه الوقائع، ليس في وسع الصين انتهاج سياسة اقتصادية حمائية. فمثل هذه السياسة تنزل خسائر فادحة في الاقتصاد الصيني، وتعطل انجازه الاول ومحركه، وهو تصدير سلع مصنعة رخيصة. ويولي هالبير وبريمير عناية خاصة لانهماك السياسة الصينية في ضمان مصادر طاقة ثابتة ومأمونة. ويحملها هذا على مغازلة أنظمة استبدادية مثل زيمبابوي والسودان وإيران. ويذهب هالبير الى وصف النفوذ الصيني المتنامي في افريقيا ب"المأساة". ويمثل على وصفه بأنغولا. ويغفل عن أن الولاياتالمتحدة ونظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا موّلا طوال 3 عقود تمرداً مسلحاً على النظام"الماركسي". فقتلت الحرب الاهلية 300 ألف شخص، وهجَّرت ربع السكان. وتورطت الاستخبارات المركزية الاميركية في الانقلاب على محمد مصدق الايراني، في 1953، وإعادة الشاه عنوة الى العرش. والسوق الحرة المفترضة، والمهدَّدة على زعم كتّابنا، هي الحل الاكثر عنفاً لمشكلة الطاقة في عالمنا. فتعاظم الطلب على مورد نادر يترتب عليه تقليص الولاياتالمتحدة والدول المستهلكة الاخرى استهلاكها من النفط. ولكنّ ثمة حلاً آخر يقتضي إعماله فرض الضريبة على مصادر الطاقة الأحفورية، ودعم الاقتصاد في الاستهلاك، وتمويل تنمية المصادر المتجددة. ويحول دون إعمال الحلول الناجعة هذه النظرة الى دور الدولة في النمو، و"شيطنة"هذا الدور وتعمد نسيان اضطلاع رأسمالية الدولة في الغرب بوظائف حاسمة. وعندما يعمد باراك أوباما الى توسيع دائرة العناية الصحية يتهم بالرغبة في السيطرة على النظام الصحي كله. وإذا زاد النفقات الفيديرالية استباقاً لأزمة مدمرة، ظُنَّ فيه الميل الى الاشتراكية. فمصدر الخطر الذي يتهدد ازدهار الغرب ليس"اجماع بكين"المزعوم على تولي الدولة دوراً راجحاً، بل أسطورة السوق الحرة. * صحافي واقتصادي وكاتب، عن"نيويوركر"الاميركية، 13/12/2010، إعداد م. ن.