تستقبل إيران بترحيب الحديث المصري عن قرب إعادة العلاقات مع طهران، وترى فيه بريق أمل في إنهاء القطيعة التي لم تنهها محاولات تقارب عدة وقرار باستئناف رحلات الطيران المباشرة بين البلدين قبل أشهر. ونظرة إيران إلى الثورة المصرية على انها، حملت في ما حملت من تغيير، أفق جديد ينبئ بعودة العلاقات بين البلدين، فالتطورات في المنطقة هيأت بيئة مناسبة لعودة العلاقات، كما يرى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وبدأت في طهران خطوات عملية لتأسيس لجنة صداقة إيرانية ? مصرية لبرلمانيين من البلدين فيما يحضّر عدد من النواب الإيرانيين لزيارة قريبة إلى مصر. لكن وفي الوقت الذي تستقبل طهران وفداً شعبياً مصرياً، تخرج أنباء عن احتجاز القاهرة ديبلوماسياً إيرانياً بتهمة التجسس، لتعيد هذه القضية التوقعات إلى أرض الواقع بما تحمله من عقبات لا يمكن تجاوزها حتى وإن صدقت النيات. ما زال شرط مصر تغيير اسم شارع قاتل الرئيس انور السادات، وفي المقابل ستقوم مصر بإنزال علم إيران في زمن الشاه عن مقبرته في القاهرة، كما صرح وزير الخارجية المصري السابق نبيل العربي. وعلى مدى السنوات الماضية لم تفلح محاولات بعض الساسة الإيرانيين في تغيير اسم الشارع ودعوات مد الجسور مع مصر سعياً لتحسين العلاقة المقطوعة منذ سقوط نظام الشاه عام 1979. فالمسألة بدت شائكة ولم يكن في الإمكان حلّها بمجموعة من اللقاءات التي غلب عليها الطابع الفكري والحواري بين الجانبين. وما زال خالد الإسلامبولي منفذ اغتيال السادات يقف عقبة أمام كل محاولات إذابة جليد العلاقات المصرية - الإيرانية الذي تراكم منذ أكثر من30 عاماً، على رغم أن من المقرر أن تقوم القاهرة بتغيير اسم شارع بهلوي ليصبح شارع الدكتور مصدق. وفي المقابل، يُزال اسم الإسلامبولي ليرتفع مكانه اسم الانتفاضة. وعلى رغم مرور سنوات على قرار بلدية طهران تغيير الاسم 2003 بناء على اقتراح قدّم من وزارة الخارجية الإيرانية، لا يزال خالد الإسلامبولي صامداً بقوة معتلياً الجداريات:"أنا خالد الإسلامبولي... أنا قاتل فرعون مصر"، ولا تزال لافتة الشارع الذي كان في السابق يحمل اسم شارع الوزراء تحمل اسم"شارع خالد الإسلامبولي". وما زال الاسم أساساً في طروحات المؤيدين والمعارضين لإعادة العلاقة مع القاهرة... ف"حزب الله"الإيراني وصل به الأمر إلى التحذير من أن المساس ب"الشهيد خالد الإسلامبولي"سيغضب الله ويغضب أمة"حزب الله". ويؤكد أنصاره أنهم لن يسمحوا بتغيير الاسم الذي"سيبقى إلى الأبد خالد الإسلامبولي". ولا يقف"حزب الله"- إيران وحده معارضاً لتغيير الاسم، فقد شهدت إيران تجمعات للاعتراض على تغيير الاسم، وشكلت لجنة لهذا الغرض حملت اسم"لجنة خالد الإسلامبولي". وتتفاوت رؤية كل من مصر وإيران في النظر الى أهمية إعادة العلاقات. قبل الثورة المصرية كان هناك تيار كبير في الجمهورية الإسلامية لا يرضيه استمرار القطيعة وبقي يطالب من دون كلل بقرارات سياسية جريئة تقود إلى عودة العلاقات، وما كان يرى فيه مفكرون وسياسيون إيرانيون قضية باتت ملحّة، كان لا يجد الحماسة نفسها في مصر. يعود تاريخ العلاقات المصرية - الإيرانية في العصر الحديث إلى عام 1847 حين وقعت معاهدة أرضروم الثانية بين الدولة القاجارية الإيرانية والدولة العثمانية والتي جاء فيها أن الدولة الإيرانية تستطيع تأسيس قنصليات لها في الولايات العثمانية، فتم افتتاح قنصلية لرعاية المصالح الإيرانية في القاهرة. وفي عام 1920 افتتحت أول سفارتين في كل من طهرانوالقاهرة، وكان أول سفير إيراني في مصر هو حاجي محمد صادق خان. وجرى توقيع اتفاقات صداقة بين البلدين في عام 1928. وجاء الزواج الملكي ليقوّي العلاقات بين العائلتين الملكيتين، حيث تزوجت الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق الأول، من ابن الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، وهو الزواج الذي انتهى بعد عشر سنوات وأحدث الطلاق فتوراً في العلاقات الثنائية. وبالعودة إلى تاريخ العلاقة بين مصر وإيران، فإن القطيعة غلبت على نصف قرن من علاقات الجانبين. ففي خمسينات القرن العشرين ومع انتصار ثورة الضباط الأحرار، كان عبدالناصر يبتعد بمصر عن المعكسر الغربي، والنقيض كان يحدث في إيران. فبعد إطاحة حكومة محمد مصدق في الفترة ذاتها بدأت التوجهات تميل لمصلحة العلاقة مع الغرب وإسرائيل وضم الشاه إيران الى المعسكر الغربي. وصل التناقض بين إيران ومصر الى ذروته على شكل حرب باردة بين البلدين، وقدم عبدالناصر الحماية لمعارضي الشاه وأقام علاقات مع مصدق الذي زار مصر سراً. وفي عام 1959 قامت مصر بقطع العلاقات مع إيران، لأن عبدالناصر وجد في محمد رضا شاه حليفاً للصهيونية. ودخل شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ محمود شلتوت على خط التجاذب وأرسل إلى الشاه تليغرافاً قال له فيه إن الاعتراف بإسرائيل خيانة للأمة الإسلامية، وجاء جواب الشاه مستغرباً"الحديث اليوم عن الاعتراف بإسرائيل الذي جرى قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ". حظيت تحركات عبدالناصر بالتأييد من جانب المفكرين والمقاومين للشاه، واستمر الدعم له على رغم وجود انتقادات كبيرة لسياسته القومية ومن بينها دعم الانفصال العربي في جنوبإيران، كما اعتبر الإيرانيون إعدام سيد قطب خطأ سياسياً فادحاً. ومع انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 استمر التعارض كما استمرت القطيعة، فالسادات قدم الحماية للشاه المخلوع، ووقّع صلحاً مع إسرائيل، وهو ما أدى الى قرار الخميني قطع العلاقة، ومنذ ذلك التاريخ تلقي الخصومة بظلالها على العلاقة بين الجانبين. ومع كل ما شاب العلاقات السياسية من توتر وقطيعة، إلا أن مبادرات التقريب بين المذاهب التي تصدى لها علماء ورجال دين من الطرفين، لعبت دوراً إيجابياً في إيجاد فهم أفضل بين السنّة والشيعة. وفي هذا السياق، كان لجهود شيخ الأزهر السابق الشيخ محمود شلتوت والمرجع الشيعي الإيراني محمد تقي القمي الأثر الكبير في إرساء قواعد التقارب، وأزالت جهودهما الكثير من سوء الفهم في العلاقة. واليوم تصدر تصريحات من الجانبين تتحدث عن صفحة جديدة في العلاقات. وهذه التصريحات ستبقى رهناً بما ستقدم عليه طهران كخطوة أولى لإثبات حسن النيات... ولعل هذه الخطوة تكون في تنفيذ قرارها القديم بتغيير اسم الشارع مثار الجدل، وهو بالطبع قرار لن يمر من دون احتجاج، ما لم يأت مدعوماً من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي في خطوة تتجاوز قرار تغيير اسم شارع محل الخلاف إلى إعطاء الضوء الأخضر للمسؤولين الإيرانيين بالتقدم خطوات متسارعة لإعادة توثيق العلاقات مع مصر ما بعد الثورة. ويبدي نواب في مجلس الشورى الإيراني تفاؤلاً في ما يتعلق بشكل العلاقة المستقبلية، بخاصة أن"المجموعات السياسية المؤثرة في الثورة المصرية رفعت شعارات تلتقي كثيراً مع أهداف الجمهورية الإسلامية، وهو ما يجعل من عودة العلاقات وإمكانية تبني استراتيجية مشتركة تصب في مصلحة قضايا الأمة الإسلامية أمراً ممكناً"، كما يرى رئيس لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني النائب حشمت الله فلاحت بيشه. وتنظر إيران إلى عودة العلاقات مع مصر اليوم بكثير من الأهمية، فهي تعتبرها إفشالاً لسياسة الولاياتالمتحدة الأميركية الرامية إلى عزلها دولياً، وحشد العداء لها بخاصة بين الدول العربية. كما أن العلاقة مع إيران تحمل منافع اقتصادية اذ تعني أن تكون مصر بوابة إيران التي يمكن من خلالها العبور إلى إفريقيا، وفي الوقت نفسه توظيف الثقل القومي المصري لتحسين العلاقات مع الدول العربية. وتقرأ إيران في عودة التقارب المصري - السوري بأنه سيرتب آثاراً ايجابية على العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وجمهورية مصر العربية، وكذلك على واقع"حماس"، الحليف الفلسطيني الأقرب إلى إيران. وإذا ما استطاعت إيران أن تقيم حلفاً مع الدول العربية بحيث تصبح المنافع مشتركة، فلن تجد الولاياتالمتحدة مناصاً من الاعتراف بإيران كدولة مؤثرة في المنطقة. وعلى صعيد التكنولوجيا النووية، تبدو إيران مستعدة لتقديم خبرتها في هذا المجال إلى مصر التي لديها طموحات واضحة على هذا الصعيد، وهي الطموحات التي عارضتها أميركا وإسرائيل والغرب وروسيا أيضاً. وعلى الصعيد الفكري الثقافي، فمساحة التقارب والحوار ستكون كبيرة، وربما يقود ذلك إلى علاقات بين مدارس الفقه في قم والأزهر، تفتح حواراً فكرياً، يكون له أثره على صعيد التقارب بين السنّة والشيعة وينزع فتيل خلاف يوسع الشقة بين المسلمين. كما سيكون له أثر كبير على صعيد التبادل الثقافي وحركة الترجمة التي بقيت نشطة على رغم سنوات القطيعة. ومع ذلك يبقى شكل العلاقات الديبلوماسية بين البلدين مفتوحاً على ثلاثة سيناريوات، بعضها قد لا يكون محبباً لدى الطرف الإيراني، فاحتمال استمرار علاقات مصبوغة بالعداء والتشاحن قائم بقوة ولا يمكن إسقاطه، ويدعم هذه المقولة أن مصر وبعدما عبرت عن رغبة في اقامة علاقات ديبلوماسية مع ايران، عادت إلى القول إن هذا الحديث مبكر وسابق لأوانه، كما أن معارضة إقامة العلاقات في السابق لم تكن قضية مقصورة على الرئيس حسني مبارك وحده بحيث يغير إسقاطه كل المعادلة، فالجيش والاستخبارات المصرية كانت لديهما تحفظات أمنية في شأن العلاقة. ولذلك فهذا السيناريو لا يذهب بالتفاؤل بعيداً في شأن إنهاء الخصومة وعودة العلاقات. وفي مقابل ذلك، يقف سيناريو مغاير تماماً يتحدث عن روابط استراتيجية عميقة، يربطها بحدوث تغيير يصل إلى درجة التحول في السياسة الخارجية المصرية، لكن هذا السيناريو مغرق في الحماسة إذ يأمل أن تنهي مصر علاقاتها القوية مع اسرائيل والولاياتالمتحدة، وتقيم علاقات قوية مع فصائل المقاومة، وهي شروط ستقود تدريجاً إلى علاقات استراتيجية بين البلدين على مستوى المنطقة. أما السيناريو الثالث وهو الأكثر واقعية فيتحدث عن روابط عادية، تتجاوز علاقات الخصومة لكنها لا تصل إلى مستوى العلاقات العميقة والاستراتيجية، وستحمل هذه العلاقات ملامح التنافس أحياناً والتعاون أحياناًَ أخرى وفق مقتضيات المصلحة لكلا الطرفين. ويعزز من وجاهة هذا الطرح أن السياسة الخارجية المصرية في ما يتعلق بإسرائيل وأميركا لن تشهد ذلك التحول الذي تأمله طهران. كما أن مصر لا يمكنها تجاهل الحس القومي وتجاوز إشكاليات العلاقة بين إيران والدول العربية في الخليج.