أحببتُهُ من النظرة الأولى. إنّه بنطلون «بيار كاردان» رماديّ. ينظر إليّ من كومة الملابس الملبوسة في مكَبّ الملابس المستعملة في «بالَةِ» الإطفائيّة في قلب دمشق. «البالة» تَدَخُّلٌ خارجي وحماية للمدنيين. «تأبَّطتُ ال «البنطلون» بعد أن اقْتنَصْته بدولارين ودخلت به بابَ «الخيّاط». ليس في بنطلوناتي وقمصاني موضعٌ لم أُغَيّرهُ بِدَرْزَةٍ من ماكينة «حِدّوْ». ومعاً نُدمِّرُ خُطوطَ «كارْدان» و«إيف سان». الفارِق بين الجاهز و «البالِة» كبير. فارِقُ تجربة. أنت هنا ترتدي «بوطاً» خاضَ حَرْبَ فييتنام ونَدِمَ وانتحرَ وتمدَّن. وليس مُجَرَدَ «كاتربلار» حياديِّ وتافِه. السرعةُ الابتدائية التي تختزنها الملابسُ المُستعملة ذاكرةٌ تعدديةٌ تَمْنَحُك الخبرة والحكمة... ولا تنقصها إلا دَرْزَة من ماكينة «حِدّوْ». طوال السنوات العشرين الماضية... لم يحصل ودخلتُ بابَه إلا واستقبلني «عبدالباسط» أو الشيخ «مصطفى اسماعيل» من الكومبيوتر «والنَجْمِ إذا هوى»... ثم يهبط «حِدّوْ» من السقيفة مُكَشِراً عن أسنان بيضاء تَعَضُّ خيطاً أبيضَ. ثم يَنّتِرُ رأسه الى الخلف ويقطع الخيط... فيبتسم. اليوم دخلتُ الدكّان ولم أسمع «القرآن». كان صَمتٌ. ندهتُ... فهبط الخيّاط الإسلامي من سقف الوطن... وتلا عليَّ ما يأتي: «أنت تعرف يا أستاذ أنني أُصلّي وأنني ملتزم بالمسجد. هذه حياتي الخاصّة طمأنينتي وسعادتي وسِلمي الداخلي. الناس من كلّ الأديان تُصَلّي. نحن لسنا طائفيين ولسنا أغبياء. نحن لسنا طائفيين لأننا لسنا طائفيين. بالإضافة إلى أننا لسنا أغبياء. نحن نعرف جَريمةَ أنْ تَكُونَ «طائفياً» ونعرف خَطَرَ أنْ تكون. لقد سقط أقرباؤنا وأصدقاؤنا قتلى أمامنا. قَتَلَهُمْ الأمن. أيَّة عصابات يا أستاذ؟ نحن نَرى ونَعْرِفْ». بعد دقائق كان قد نطَق بنداءِ السينمائيين... من دونَ أن يَعْلَمَ بِهِ. «كفُّ يَد أجهزة الأمن... الفَسَادُ الأمنيّ يَقْتلُ المُواطنين...». كانَ في لُغته سحرُ اللغة... فقد تمكن من مُخاطبتي على أنني «علويّ» وليس على أنني «علويّ». كان يحتاج أن أكونَ «علوياً» ليَشْتَعِلَ مونولوجُه بالشكوى. كان لا يستطيع تَحَمُّل أن «يَعْتَرِفَ» بِنَفْسِهِ لنَفْسِهِ أنَّه لا طائفيّ وأنّه مُتَمَدِّن ووطنيّ ويرى الكَون. لم يَزْحَل ولا ببنت فَتْحَةٍ أو كَسْرَةٍ تشيرُ إلى أننا قد نكون مِن رحمٍ مُخْتَلِف. كان يَصْرَخُ في المرآة أنّه مُهان. ليسَ بريئاً فحسب بل ومهاناً... وأن إنسانيَّتَهُ امْتُهِنَتْ. «الأمْنْ يا أستاذ...». دخل الزبون الغامض... فخرَجْتُ ريثما يَخْرُج. وقَفْتُ على الرصيف وتلفتتُ إلى يساري. هناك... على مقربةٍ من قصر العدل كان مَدْخَلُ «قِسْمِ الصوت في مؤسسة السينما». خَرَجَ منه موظفٌ شابّ «درعاويّ» نفخ سيجارته وتلفت فشاهدني. فهَرْوَلَ. فَتعانَقْنا. «نحنُ مُحاصرون يا أُستاذ. أهْلُنا في درعا. لا هاتِف لا خَبَرْ لا كَفِّيَة لا حامُض حلو.. لا درعا. درعا البَلَدْ.. القيامة الآن». كان يَحْتَاجُني لتَحْتَمِلَ روحُه عِبْءَ وهُبابَ المَهانَة. وكانت اللغة مونولوجاً كلاسيكياً.. إذ تحتاج الآخرَ لتقولَ لهُ ما تودُّ قَوْلَه لنفسِك.. وما تَوَدُّ نفسُك قولَه. «الأمْنْ يا أُستاذ...» خرج الزبون الغامض..فَشَنْكَلتُ الشاب الدرعاويّ ودخلتُ به بابَ الخيّاط.. خيّاط الوحدة الوطنيّة. غَضِبَ « حِدّوْ « حين مَدَدْتُ يدي بالخمسين ليرة.. ورَماني بنظرة مُواطنةٍ وتضامُنٍ أعادت نقودي إلى جيبي. كان هذا أولُ خيرات الثورة السورية عليَّ. الجنديّ المجهول : في التاكسي... رفع السائق صوت «عبدالباسط عبدالصمد» حتى صدق الله العظيم ثم لَمَسَ «التابلوه» فلَعْلَعَتِ خطبةٌ إسلاميّة. كانَ يُزحلقني إلى تجارةٍ خاسرة. وحين أهْلَكَتْهُ نظرتي المُستقيمة في الزجاج... غيَّر المحطّة نحو الوحدة والحرية والاشتراكيّة. وحين أغمضْتُ.. ضَرَبَ الكاسيت فصَرَخَتِ العتابا : «الله يهِدَّكْ يا القِطار «.. «تردم ررد م» كان هذا صوت الموسيقى... فدَمْدَمْتُ «يا بُو تنعْشَرْ فَرْغُونِه « نَظَرَ إليَّ وتنفس وابتسمَ. فَنظرتُ إليه وابتسمتُ فانهارَ حُباً فسألتُه : شو بتشتغل؟. قال : شو شو بشتغل ؟... تكسي. قلت : غير التاكسي. قال : إنت قول... قلت : أَمْنْ. قال : هِهِهْ..العَمَهْ..ههه كيف طيِّب بتعرفوه للواحِد؟! قلت : بيجامة رياضة من «البالِة» وخفَّافة. وسيارة تَكحّ وتَخْتَلِج. وما بتعرف الطريق. يعني فقير معتَّر. يعني.. شو بَدَّك تكون ؟ مَدَني ومعك أجار بيت ؟ لأ.. معناها مْأمِّنْ سِكَنَكْ... يعني أَمن. المُهم ألا تكون مِمَّنْ يُعَذِبُون الناس. قال : لا والله. شايِف الموتوسيكل الذي أمامنا.. أنا معي واحد.. الساعة سبعة باخد البريد من الفرع (ِِِA) إلى الفرع ( Z) و بسّ. لا والله. مَرَّ نُصبُ «الجنديُّ المجهول» من النافذةِ اليمنى... وهَوَتْ التاكسي نزولاً. حرَّرَ السائقُ علبةَ السرعات لتوفير البنزين..فصارَ الهبوط ُ حراً وخطراً يشبه لحظة الوداع. كُنْتُ قد وصَلْتُ الحيَّ الذي أقْطنُ عندما لَبَطَني ذكائي وقال لي « حتى ولو كان هذا العنصرُ ضحيّةً فلستُ مضطراً لأكونَ ضَحيّة الضحيّة». وكنت قد رفَعْتُ يديّ للإشارة إلى منزلي فمددتُها إلى الأفق وقلت..» هنالك خلف التِلالِ تِلالْ». نزلتُ في حيٍّ على الهضبة المُقابلة ومشيت هُبوطاً حتى مَطْعَمْ الجاحِظ. اشتريت «كبّة صاجيّة». مشيت وضحكت ومشيت. وحين كان عليَّ أن أصعد الجبل نحو منزلي... توقفت سيارة تاكسي فركبتها. - «من وين الأخ» سألني السائقُ الأشقر. - «من وين الأخ» أجبتُ السائقَ الأشقر. - «من الغوطاآآآآ».. هكذا مَدَّدَ آخر «الغوطة» ليبدو من قاعِ دمشق. ثم نَظَرَني وأردف « و إتي ي ي ي «؟ - «من مْليحآآآآآآآآ « قلتُ قاصداً «المْلِيْحَهْ» الواقعة في قلب الغُوطَة. بعد وصْلَةِ (عَتابا) تمكنتُ من قيادة التحقيق. لم يكن الأشقرُ من «الغُوطه «و لم يطأها بدولابِه. وما لبثَ أن وُلِدَ من جديد في ريف «اللاذقيّة». كان يبدو مسكينا..فاتَّقَيْتُهُ.. فَجَعَلْتُهُ يتجاوز المنزلَ صاعداً سقفَ قاسيون وخَفِيَتِ الطُلُولُ وتَلَفَتَ القلبُ. مَرَّ نُصبُ الجندي المجهول خلفَ زجاج النافذة اليَسار. من حيّ «المهاجرين». اشتريتُ أقراص «فلافل» بالسمْسُمْ و «بَنَدورَهْ» وصعدتُ بأكياسي إلى تكسي جديد. مرَّ «نصب الجندي المجهول» خلف النافذة اليُمنى. عُدتُ إلى بيتي مساءً بخمسة أكياس نايلون وبعد خَمْسَةِ تكاسي «عَتابا» فارتَفَعَتْ تَكْلفِةُ «البيير كاردان» إلى ما يعادل «20» دولاراً حتى يومنا هذا. متى ستتحرر سورية ويصبح سائق التاكسي سائق تكسي. الجنديّ المجهول : «عن جدار سوريّ على فايسبوك» «منذ سبعة عشر عاماً خَرَجْتُ، سنوات مرَّتْ خَمْس أو سِتّ لم استطع فيها رؤية أمي (رحمها الله)، أخبروني أنها وقفت على نافذة الموت.. رَفَضَتْ الدخولَ إلى مَلكوتِهِ حتى همسوا في أذنها.. كذباً.. بأنني عُدْتُ.. فأسلمت الروح. لم استطع حضور جنازتها ولم أقرأ الفاتحة على قبرها يوماً... في (مجنتنا)، عند جدي وجدتي وأبي في جبل (الحاووز). الآن فقط رأيتُ قبرَها في صورةٍ لمدفعٍ يربضُ عِنْدَهُ على تخوم الجبل. أمي حبيبتي سامحيني. بيني وبين أن أقراً فاتحة القرآن على سكينة روحك.. جنديٌّ بمدفعه. سامحيني حقاً فلستُ أقوى على قَتْلِهِ لأُعانِقَ ظِلَّكِ الدافئ. كل ما أعرفه أن له أماً طيبة.. تدعو الله (أن يهديه)، وتدعو على الظالمين. وأن يعود إليها سالماً. وهو حتماً سيعود. وأنا حتماً سأعود... فالله لا يخيب ظن الأمهات». * سينمائي سوريّ