هل يمكن البلدان العربية أن تجذب استثمارات مباشرة من الخارج في ظل أوضاعها السياسية وبنيتها المؤسسية؟ ظلّ هذا السؤال يُطرح خلال السنوات والعقود الماضية، وظلت التدفقات الاستثمارية دون المستوى المأمول لتطوير البنية الاقتصادية في مختلف البلدان العربية. تُعتبر الاستثمارات المباشرة، أهم العناصر في تطوير التراكم الرأسمالي في أي من البلدان حيث تُوظف، عادة، في مشاريع جديدة أو تطور وتوسع مشاريع قائمة في مختلف القطاعات الحيوية. ولا شك في أن الاستثمارات المباشرة الأجنبية تبحث عن أدوات، أو مشاريع، قادرة على درّ عائد يعوض تكلفة رأس المال ويحقق هامشاً ملائماً يبرر الأخطار الاستثمارية. ولذلك، طبيعي أن تتجه الأموال في اتجاه القطاعات ذات الجدوى الاقتصادية التي تتمتع بميزات نسبية. وعندما نأخذ في الحسبان أوضاع الاستثمار في البلدان العربية نجد أن هناك إمكانات مهمة لاستيعاب مزيد من الأموال لو أُنجزت إصلاحات اقتصادية وعُدلت القوانين والأنظمة التي تحكم العمل الاقتصادي، وإذا توافرت التسهيلات الإدارية التي تعزز التدفق الرأسمالي. وعدل كثير من الحكومات العربية قوانينه المتعلقة بالاستثمار منذ أواسط سبعينات القرن العشرين. ففي مصر، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، صدر القانون الرقم 43 لعام 1974 الخاص بالاستثمار المباشر، ما أوجد أسساً قانونية لتوظيف الأموال من قبل المستثمرين الأجانب في مصر. وأصدرت الحكومة السورية القانون الرقم 10 في شأن الاستثمار في مختلف القطاعات الاقتصادية في سورية، ناهيك بقوانين صدرت في اليمن والمغرب وتونس والسودان وغيرها من بلدان عربية. لكن ما تحقق على أرض الواقع لا يتناسق مع الطموحات والآمال التي دفعت إلى إصدار تلك القوانين التي وفّرت تسهيلات استثمارية وإعفاءات جمركية وضريبية مهمة. قدّرت قيمة التدفقات الاستثمارية المباشرة على المستوى العالمي عام 2010 ب 1.1 تريليون دولار، ولكن كم من هذه الأموال اتجه إلى البلدان العربية؟ قدرت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، أن قيمة الاستثمارات المباشرة في البلدان العربية عام 2010 ب 89 بليون دولار تقريباً مرتفعة بنسبة 12 في المئة عمّا كانت عليه عام 2009 حين بلغت 79 بليون دولار. وتمثل هذه الاستثمارات المباشرة في البلدان العربية ما يوازي ثمانية في المئة من إجمالي التدفقات الاستثمارية على مستوى العالم. كذلك تتوزع الاستثمارات المباشرة في البلدان العربية بتفاوت مهم إذ تحظى بلدان مثل السعودية والإمارات ومصر والمغرب باهتمام من المستثمرين نظراً إلى الانفتاح المواتي للقطاعات ذات الميزات النسبية مثل قطاع النفط وقطاع المرافق والمواتية لولوج الأموال الأجنبية فيها من دون تعقيدات أو قيود غير اعتيادية. وسمح ذلك الانفتاح القانوني والإداري في هذه البلدان، لتوظيف الأموال في شكل مهم في عمليات القطاع النفطي ومشاريع الكهرباء وتقطير المياه والاتصالات، وإلى حد ما في الخدمات الصحية وبرامج التعليم العالي. والآن في ظل الأوضاع السياسية غير المستقرة في كثير من البلدان العربية، لا بد من أن تتعثر عمليات التدفق الاستثماري إليها، إذ ليس متوقعاً أن تنمو هذه الاستثمارات المباشرة عندما تفتقر البلدان للأمن وتختلط المفاهيم في شأن الاستثمار وكيفية التعامل مع المستثمرين. ففي مصر، مثلاً، هناك مراجعات لتعاملات النظام السياسي السابق مع المستثمرين الأجانب، خصوصاً العرب منهم، وكيفية تخصيص الأراضي وتسعيرها لهؤلاء المستثمرين. لذا، سيمر زمن طويل حتى يتيقن رجال الأعمال في شأن التوجهات الجديدة للمؤسسات الحاكمة الناتجة عن الانتخابات التشريعية والرئاسية. ولا شك في أن تجاوزات مهمة حدثت في الماضي، إلا أن ذلك يجب أن لا يؤدي إلى الانغلاق الاقتصادي وتعطيل عمليات التدفق الاستثماري لبلدان هي في أمس الحاجة إلى رؤوس الأموال التي يمكن أن تؤدي إلى إيجاد أعمال وفرص عمل للملايين من الشباب المتعلمين أو شبه المتعلمين. يضاف إلى ذلك، أن الحركات الاحتجاجية، على أهميتها لتطوير الأوضاع السياسية المتجمدة في كثير من البلدان العربية، لا بد من أن تعمل على تعطيل المؤسسات الاقتصادية المتنوعة وتخفض من أنشطتها لزمن معين. فأعمال السياحة وحركة النقل، تراجعتا في شكل كبير ما يعني أن أية مشاريع جديدة في هذا القطاع لا بد أن تتعثر أو تؤجل إلى وقت طويل، أو ربما تلغى في كل نهائي لانعدام الجدوى الاقتصادية في ظل الظروف الراهنة. وما ينطبق على السياحة، ربما ينطبق على قطاع الصناعة التحويلية والخدمات، بما في ذلك خدمات الترفيه والإعلام. إذاً، هناك تحديات واضحة أمام عمليات الاستثمار المباشر في البلدان العربية، ما يتطلب عقد اجتماعات بين رجال الأعمال وصناع القرار للبحث في كيفية تنفيذ القرارات التي تم اتخاذها في القمتين الاقتصاديتين العربيتين التي عقدت الأولى في الكويت مطلع عام 2009، والثانية في شرم الشيخ في مطلع العام الحالي، إذ تقرر إنجاز مشاريع في النقل والكهرباء والزراعة وتم تخصيص صندوق مهم لدعم الأعمال الصغيرة. فكيف يمكن أن ترى هذه المشاريع، أو بعضها، النور خلال السنوات المقبلة؟ لا ريب في أن من الأهمية بمكان، تعزيز التوجهات الإصلاحية في المجال الاقتصادي من ضمن عملية التحول السياسي الجارية في عدد من البلدان العربية الرئيسة بما يمكن من تعزيز عمليات الاستثمار البيني في البلدان العربية. يجب أن توضع أسس قانونية وهيكلية للإفادة من الأموال العربية الناتجة عن فوائض إيرادات النفط في مشاريع ذات أهمية اقتصادية واجتماعية بدلاً من أن تتوجه هذه الأموال إلى خارج العالم العربي. وإذا ما تم تطوير عناصر جذب الاستثمار في مختلف البلدان العربية، فلن يكون غريباً أن ترتفع قيمة الاستثمارات المباشرة في العالم العربي إلى أكثر من مئة بليون دولار سنوياً، وقد تتوزع هذه الأموال بطريقة مناسبة لمتطلبات مختلف القطاعات الاقتصادية وبما يتسق مع معطيات السوق ويتواءم مع معايير الميزات النسبية في كل من هذه البلدان. يجب عدم الانتظار كثيراً، ومن الضروري تقويم مختلف الأوضاع الاقتصادية وتحديد فرص الاستثمار. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت