طوقٌ من الغموض يُلقي بظلاله على رواية"طوق الحمام"، للكاتبة السعودية رجاء عالِم المركز الثقافي العربي، الحائزة على جائزة البوكر العربية مناصفة مع رواية"القوس والفراشة"للكاتب المغربي محمد الأشعري للعام 2011. تحفل رواية عالِم بفضاءات نصيّة متحررة من قيود العمل الروائي والحبكة التقليدية، بل إنها تتخطى المناحي التجديدية، وقد حرصت كاتبتها على رسم ممارستها الإبداعية الفنية من خلال التركيز على مفارقاتها المثيرة لعبثية الحياة من جوانبها المتعددة. ثقافتها وتاريخها وهمومها وأحلامها وإحباطاتها مرتكزة الى لغة من الإيهام، وكل هذا ضمن إطار من الرموز والطلاسم والألغاز التي تُغرق القارئ في متاهات أمكنتها، والتباس أزمنتها، وتعقيدات شخوصها، وارتباطهم بالحياة والموت، والذاكرة والنسيان، والغياب والغيب، علاوة على صراعاتهم الدينية والعقائدية والاجتماعية والوطنية، في قالب من التعتيم والضبابية. ومما لا شك فيه، أن المراوغة المقصودة تُفقد القارئ مقدرته على التوغل في عمق النص والتقاط طرف الخيط أو الخيوط التي من شأنها أن تؤدي إلى عنصر التشويق في الحبكة وصولاً إلى اللهفة في النهاية. وتبنّي الكاتبة أسلوب الغموض الحداثي يَظهر جلياً في مقدمة روايتها، حين تتكلم عن جدّها:"العالِم الذي آمن بأن العلم المنقول هو علمُ ميت عن ميت، والموت مكتسَب بينما الحياة الباطنية وهبيّة، تفيض في روح العارف من بحر الحي". تتطلب قراءة رواية"طوق الحمام"التي يبلغ عدد صفحاتها 566، مجهوداً مضنياً وصبراً بلا حدود. ويمكن أن تنطبق على مضمونها مقولة"المعنى في قلب الشاعر"، وتبقى طلاسمها إلى ما بعد الانتهاء من قراءتها، بانتظار من يفك رموزها."أبو الروس"، الشخصية التي قد تكون الرئيسة في الرواية، ليس شخصاً، بل زقاق، أنموذج من أزقة مكةالمكرمة التي تتآكلها الجرائم والأعمال المافيوية، وينخرها الفساد. ويروي أبو الروس سبب تسميته بهذا الاسم الذي يوحي بالمناطحة قائلاً:"حدث في زمن قبل ظهوري في الحياة، أن وجدوا في هذه البقعة من أطراف ميقات العمرة أربعة رؤوس مدفونة لأربعة رجال". ويؤكد أن سبب خروجه عن صمته هو جثة المرأة العارية المجهولة الهوية، التي وقعت من طوق الرواية في أروقته. وتولّى التحقيق في القضية رئيسُ المباحث الجنائية ناصر، الذي شهد في طفولته مقتل أخته فاطمة على يد والده غسلاً لعاره، وحُررت لها شهادة وفاة مَرَضية...! واختفى إثر ظهور الجثة الصحافي يوسف ابن السيدة حليمة، التي تم استدعاؤها للتحقيق معها للاشتباه بابنها، فدافعت عنه قائلة:"يوسف غير قادر على إيذاء بعوضة. أكله وشربه حبر وورق". حلّقت عالِم في عالم الرواية المضادة، متخذة منحى التمرد على الموروثات والمعتقدات القديمة، التي تتراوح بين حالة الجمود الفكري المتأصلة في النفوس وبين سطوة المقدسات التي تُحاك باسمها أكبر المؤامرات، فلجأت في سرد معظم أحداث روايتها إلى يوميات يوسف ومقالاته المهملة، إضافة إلى رسائل عائشة، معلمة المدرسة التي تقطن في الزقاق. وما بين سطور يوسف ورسائل عائشة ظهرت عزّة، فتاة الزقاق التي عشقها يوسف. ووقعت كل هذه الأوراق في يد المحقق ناصر، الذي جعلها شغله الشاغل، وبنى قضيته وشكوكه وتحرياته على مضمونها."يشعر ناصر بكونه محبوساً ضمن أحجية، وأن هناك لاعباً ما يحركه - كقطعة أساسية ضمن قطع الأحجية - هنا وهناك لكي يعيد بناء تلك القضية أو هدمها". وخلال الرواية لم تظهر عائشة أو عزة، على الرغم من أنهما شخصيتان رئيستان فيها، إلا على الورق، فقد اختفتا من الزقاق بالتزامن مع ظهور الجثة، ما جعلهما احتمالين قويين لتكون إحداهما مشروع الجثة اللغز. ولم يقتصر لغز الرواية على الجثة فحسب، بل على مفتاح الكعبة المسروق، إضافة إلى لغز أم السعد، التي سقطت من فك عزرائيل! وهناك في مكان ما في الرواية، أحداث تشير إلى زواج عائشة من أحمد ابن النزّاح، الذي هجرها بعد شهرين من زواجهما فقط، مع التركيز على بعض العادات والتقاليد والموروثات التي تلاحق المرأة وتجعل منها ملكية خاصة تعيش في عالم من التأنيث الخالص. ووصْفُ عائشة لحظة طلاقها:"في الشهر الثاني لزواجنا أعطاني أحمد ظهره، وقذف بتلك الكلمة من على كتفه: أنت طالق". وعبّرت عن مشاعرها:"تحت ثيابي كنت مجرد لعبة أتوماتيكية بلا بطارية، الأسلاك الموصلة للحواس والقلب مقطوعة". سردٌ وأحداثٌ ووقائع وتاريخ ومتاهات، كلها مصطلحات تدور في فلك رواية منفرطة العقد، وما بين شرود كلماتها وعباراتها، تضيع الفكرة ويتوه القارئ، فقد كان من بين نصوص عائشة التي أضفت على الرواية مزيداً من الإيهام والغموض، تداخل الأحلام والرؤى، إضافة إلى بعض الفقرات التي اقتبستها من كتاب"نساء عاشقات". ولعبت شخصية خليل الغاضبة والحانقة دورَها في تجسيد الصراع النفسي المرير في مواجهة مرض السرطان الذي اجتاح جسده وقلَبَ حياته رأساً على عقب... ومن دون سابق إنذار دخل الشيخ مزاحم على جميلة في المخزن! من هي جميلة؟... وبعد هذا الضياع تذكّر كيف ملّكوه إياها تلك الليلة، وتساءل:"أحقاً عَرَّسْتَ يا شايب بجميلة؟". والسرّ الأكبر يكمن في بطن يوسف، الذي حثّ خطاه في تاريخ مكة، ضائعاً وباحثاً عن قطعة الأحجية التي تربط بين آل شيبة ومفتاح الكعبة الضائع ونهر الكُتبيّة، فنفض الغبار عن الصنم الجاهلي هُبل، كما واجه أساف ونائلة. وفي القسم الثاني من الرواية ظهرت شخصية اسمها نورة في"مدريد"، مع مرافقها الشخصي رافع، الذي عيّنه الشيخ لحراستها... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من هو الشيخ؟ وقد كان جلّ اهتمام نورة هو زيارة المقابر. وحرصت الكاتبة على نقل العبارات الموجودة على القبور باللغة الإنكليزية وتعريبها، كاشفة ثراء ثقافتها، ففي مجال الفن تكلمت عن"باخ"ومقطوعاته الموسيقية و"غولدبيرج"و"بيتهوفن"، وفي مجال الفلسفة جالت في آفاق"تهافت التهافت"للفيلسوف ابن رشد، و"تفسير ما بعد الطبيعة"لأرسطو، ولم تَغفُل عالِم عن سرد بعض القصص التاريخية ذات المغزى، فذكرت لقاءها بتلك اليهودية التي حدثتها عن جَدَّيهما صاموئيل وعلي بن حزم:"لقد ترك جدّي وجدك نسختهما من مفتاح الفردوس، ابن حزم في كتابه طوق الحمامة"! ونكتشف لاحقاً أن سرّ الرواية يكمن في مفتاحَيِ الكعبة والفردوس. ولم تتوانَ عالِم عن اصطحابنا إلى قلب رحلاتها السياحية، التي لعبت فيها دور المرشدة... وانطلاقاً من طليطلة أهم المدن في عصور إسبانيا الذهبية، تعود أدراجها إلى مكة، ومن دون تمهيد. وكلما قاربت الرواية نهايتها، نتبين أننا في مواجهة خيط رفيع يفصل بين الإبداع الذي يحلّق في فضاء العقول وفوضى الإيهام والتوهم. ورواية"طوق الحمام"تخرج من غموض لتدخل في عتمة، وكل ذلك حين يتبادر إلى ذهن القارئ أن عائشة وعزة ونورة ربما - وهنا أصرُّ على استخدام كلمة"ربما"للأمانة لأنني لست متأكدة - كنّ شخصاً واحداً نسجه خيال عائشة، أو ربما حلمها:"أحياناً تفيق على صباح يقول لك إنه غير الصباحات، وإنك على قمة العالم، وإن كل ما مرّ في حلم البارحة ينتظر وراء الباب، وإن بوسعك بأطراف أصابع قدميك أن توارب له الباب ليدخل".