حسم الإخوان المسلمون موقفهم وأعلنوا عن تأسيس حزب سياسي مدني مفتوح لكل المصريين يقوم بالمهام الحزبية التنافسية في مجال العمل السياسي، بحيث تبقى الجماعة هيئة إسلامية عامة مهمومة بالشأن الإسلامي العام من كل جوانبه وتساند الحزب السياسي، كما يحدث في كل بلاد العالم الحر الديموقراطي. هذا قرار قديم كان ينتظر التوقيت المناسب لإخراجه إلى النور. أثار هذا القرار تساؤلات كثيرة، بعضها قديم، وقليل منها جديد، وقد سال حبرٌ كثير على صفحات الصحف والمجلات وعلى مواقع الإنترنت، في مصر والعالم العربي والغربي، والتقى الإخوان إعلاميين مراسلين لتلفزيونات من دول لم أكن أتصور أن تحضر إلى مصر وتسعى إلى التعرف إلى مواقف الإخوان المسلمين من شيلي واليابان والمكسيك واليونان فضلاً عن أميركا وبريطانيا وفرنسا... إلخ. وقد طرح محمد فايز فرحات في الحياة 28/2/2011 سؤالاً عن بناء الثقة بين الجماعة مع الدولة والمجتمع في هذه المرحلة الدقيقة وفصّل القول في ثلاث إشكاليات هي: الخلط بين الدعوي والسياسي، ارتباك مفهوم الدولة المدنية، شعار الإسلام هو الحل. بينما طرح صلاح سالم ? من دون ذكر الإخوان ? إشكالية أهم وأخطر تتعلق بالعلاقات المصرية ? الإسرائيلية في مناخ جديد لم تتحدد ملامحه ولم تُعرف طبيعته. وأثار الأستاذ عبدالرحمن أياس قضية العلاقة بين العرب وأميركا في قرنين، وتلك الصداقة التي انقلبت خصومة. كل ذلك في صفحة واحدة في"الحياة"28/2/2011، فما بالك بغيرها. وسأركز هنا على مقال محمد فايز فرحات فقط لأنه توجّه إلى الإخوان بنصيحة بقوله:"إن على الجماعة البدء من الآن في إعادة النظر في سلوكياتها وفي خطابها المكتوب والشفهي لتصبح في مستوى المرحلة المقبلة". أولاً: كانت جماعة الإخوان المسلمين حريصة على تسجيل مواقفها خلال الثورة كتابة وهذه وثائق يمكن العودة إليها وهذا ما يعبّر عن مواقفها الرسمية. وبدأت البيانات من 19/1 وما زالت مستمرة. أمّا الخطاب الشفهي فقد أكدّت الجماعة باستمرار أن مواقفها تستقى من تصريحات المتحدثين الرسميين فقط ومرشدها العام. ثانياً: أعلنت الجماعة دوماً أن ليست لديها مطالب خاصة، بل هي تتبنى المطالب الشعبية، وهي شريكة في الثورة من اليوم الأول، في الدعوة إليها وفي تنظيم فاعلياتها، وفي الإعاشة والإعلام، وفي الدفاع والحماية، وفي نشرها بالمحافظات ودعمها المستمر، واستمرارها حتى تحقق أهدافها. ثالثاً: الهدف الرئيس للثورة كان ولا يزال: إسقاط نظام وعهد قديمين اتسما بالاستبداد والفساد، وبناء نظام جديد لعهد جديد يشارك في بنائه كل المصريين على قدم المساواة ويحميه الشعب بصحوته ونشاطه، ويحرسه الجيش الذي من أوجب واجباته الدفاع عن الوطن ضد الأخطار الخارجية، وحماية الإرادة الشعبية. سقط رأس النظام وبعض رجاله وقليل من أركانه، وما زالت قواه الذبيحة تسعى إلى استمراره بصورة جديدة، وتحاول البقاء لإجهاض الثورة وإعادة إنتاج ما مضى مع بعض التحسينات أو الإصلاحات الجزئية ويساعدها على ذلك رغبة صهيونية ورعاية أميركية تريدان إنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما القضايا التي أثارها الزميل فيمكن التعقيب عليها بالآتي: الفصل بين الدعوي والسياسي: ناقشت كثيرين وكتبت كثيراً في هذه المسألة، بين الفصل والوصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي. المشكلة أننا ننطلق من مفاهيم ومرجعيات متباينة، نستورد إشكاليات نشأت في بلاد أخرى لها ثقافات مختلفة في عصور سابقة. الإسلام في حياة المسلمين، وحضارته في سلوك العرب ومواطن البلاد الإسلامية أمر مختلف، الفصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي في حياة الأفراد سواء عند المسلمين أو المسيحيين أو اليهود. عندما تطورت الحياة السياسية إلى الوضع الحالي، أصبح من الضروري أن يتم تقسيم الوظائف أو الهياكل التنظيمية، بمعنى أن هناك وعياً عاماً شعبياً ينطلق من المرجعية الدينية التي تنظم كل مجالات الحياة، وهناك علماء مختصون في الشؤون الفقهية والشرعية لهم مساهمتهم في الحياة العامة، وهناك أحزاب سياسية تتنافس على ثقة الشعب في انتخابات حرّة نزيهة لتتولى إدارة شؤون البلاد في ظل دستور يحدد المقومات الأساسية للمجتمع ودور كل سلطة من السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويحقق التوازن بين هذه السلطات. هنا ستقوم جماعة الإخوان بدورها الدعوي والتربوي والسياسي والفكري في المجتمع كله من دون تنافس على المواقع السياسية. وسيقوم حزب"الحرية والعدالة"بالدور السياسي الحزبي التنافسي ببرنامج محدد وسيخوض الانتخابات بشعارات مناسبة لكل مرحلة سياسية، وسيتعامل مع الواقع السياسي في تحالفات وائتلافات موقتة أو دائمة. وستكون هناك صلة مرنة وتنسيقية ودعم مستمر بين الطرفين مع الانفصال التنظيمي الواضح بين الجهتين، وسيكون للحزب اتخاذ قراراته بصورة مؤسسية ومستقلة تماماً في ضوء الاستراتيجية الواحدة. الإسلام الذي يؤمن به الإخوان لا يعرف احتكار الحقيقة الدينية ولا الحياتية فالرأي الفقهي الشرعي صواب يحتمل الخطأ، والتعددية الفقهية حتى داخل المذهب الواحد معروفة من قديم الزمان، فالإمام أبو حنيفة خالفه تلاميذه في مسائل، والإمام الشافعي له مذهبان، قديم وجديد، ولأصحابه اجتهادات متنوعة... إلخ. فما بالنا في المجال السياسي الذي يقوم أساساً على الاجتهاد البشري ويعتمد على قواعد قليلة كمبادئ عامة؟ مفهوم الدولة المدنية عند الإخوان واضح كما هو في الإسلام ولا يعرف الإسلام إلا الدولة المدنية، حتى الرسول في حياته صلى الله عليه وسلم كانت له سنة قولية وعملية وتقريرية تختلف وفق المنطلق الذي تنطلق منه، هل كرسول مبلّغ عن الله؟ أم كرئيس للدولة يجتهد للمواطنين؟ أم كقائد حربي يخوض المعارك؟ أم كقاضٍ يحكم بين الناس في أقضيتهم؟ أم حتى كمفتي يفتي للناس في شؤون حياتهم؟ لذلك، لا يوجد ارتباك عند الإخوان المسلمين، قد يكون عند البعض الآخر من الإسلاميين ونحن أعلنا بوضوح منذ عام 1938 أن الإخوان لا يعدلون بنظام الحكم الدستوري النيابي بديلاً، وأن الأمة مصدر السلطات، وأن الحاكم أجير عند الأمة وأنه يحق لها أن تعزله بعد محاسبته، وأن السلطة المطلقة تؤدي إلى فساد مطلق، وقلنا في عام 1994 إن نظام التعددية الحزبية هو الأفضل والأوفق مع مبادئ الإسلام بعد استشراء الاستبداد على مدار عصور عدة، وإن مدة الحاكم يجب أن تحدد بزمن... إلخ. أما ما يتعلق بهيئة كبار علماء الدين، فقد التبس على البعض قراءتها بدقة، لأنها هيئة استشارية غير ملزمة إطلاقاً كغيرها من الهيئات الأخرى وأنه يقوم مقامها مجمع البحوث الإسلامية أو الأزهر الشريف. أما سن التشريعات فهى محددة للبرلمان فقط الذي له أن يستشير من يشاء من خبراء في مختلف مجالات الحياة. وسلطة الرقابة على دستورية القوانين فهي اختصاص إلى المحكمة الدستورية العليا من دون غيرها ولا يصح أن نغرقها بفيضان من الدعاوى المرفوعة أمامها وهذا يحتاج إلى تنظيم جديد، وهذا أعتقد أن الكاتب معه حق فيه وتجب إعادة النظر لإعادة التوازن بين الحق العام في الطعن بعدم الدستورية وبين قدرة المحكمة على النظر في الدعاوى. شعار"الإسلام هو الحل"كان لتثبيت الهوية والمرجعية وأعتقد أن حزب الحرية والعدالة سيناقش بموضوعية كل الانتقادات والآراء المتعلقة بشعار الحزب الذي سيكون ملازماً له ويتوافق مع اسمه. * قيادي في جماعة"الإخوان المسلمين"- مصر