«الوجبة ب 30 جنيهاً ومعها لعبة بعشرة، أي 40، والحد الأدنى عشر وجبات، وعرض العرائس ب 250، وعليه 180 ألعاب، و150 ساحر. وكل ما عليكم هو إحضار كعكة عيد الميلاد وأي إضافات غذائية أخرى»... هكذا، وبابتسامة ساحرة وبراءة مشكوك في نياتها وقلب متحجر لا يعرف الرحمة، زف مسؤول أعياد الميلاد في محل الوجبات السريعة الأشهر لدى الأطفال كلفة إقامة عيد ميلاد أمير ابن الثماني سنوات والموعود بحفلة عيد ميلاد أسطورية تعوضه عن مكيدة العام الماضي لوالده الواقف أمامه وهو يهز رأسه بحركات لاإرادية ليبدو وكأنه يتفهم الأمر تماماً! مكيدة العام الماضي وقع فيها أمير حين عاد من المدرسة ليجد أمه وقد وضعته أمام الأمر الواقع! كعكة عيد ميلاد مخبوزة في فرن البيت، وزينة العيد مصنوعة ببقايا الورق في البيت، وهدية العيد أُعيدَ تدويرُها من خزانة الأم، حتى الأصدقاء المدعوون اختيروا من داخل حدود العمارة السكنية التي يقع فيها البيت، ما أدى إلى خروج المناسبة في شكل بيتي رتيب لا يرقى إلى حفلة مصطفى التي أقيمت في الملاهي العبقرية الملحقة بالمركز التجاري الضخم، أو احتفال إسماعيل المتفرد في عزبة (قرية) جده على طريق القاهرة – الإسكندرية الزراعية، إذ أمضى الأولاد يومهم حائرين بين السباحة في مسبح الجد وامتطاء خيوله العربية الأصيلة وتناول ما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات لا حصر لها. قرار الأب الحكيم باختصار الطريق، والاحتفاظ لنفسه بحججه -البالغة المنطقية من وجهة نظره، المفرطة في السخف من وجهة نظر أمير-، الخاصة بالتفاوت الطبقي الموجود في داخل الشريحة الواحدة من أبناء الطبقة المتوسطة، والناتج من الفروق الشاسعة في الأجور بين موظف في بنك أجنبي وآخر في هيئة حكومية وثالث ورث أطياناً وعقارات وأسهماً وسندات عن الوالد والوالدة. وبينما مسؤول أعياد الميلاد يدوّن قائمة المدفوعات بتأنٍّ شديد ليدغدغ مشاعر أمير، الذي سرح بخياله بالفعل في عيد ميلاده المرتقب في المحل المشهور وهو محاط بالعرائس الضخمة والأولاد يحاولون خطب وده ليلقوا اهتمام العرائس مثله، كان مخ الأب يُجري عمليات حسابية مكوكية لتدبير الألف جنيه المطلوبة من راتب أصابته إضرابات ما بعد ثورة كانون الثاني (يناير) الفئوية بهزال شديد، وكادت تصريحات القوى الدينية المتشددة حول السياحة تصيبه في مقتل بعد انخفاض نسب السياحة التي يعمل في إحدى شركاتها الكبرى. وعلى رغم يقين الوالد بأن إقامة حفلة عيد ميلاد للصغير بهذه الكلفة في هذا التوقيت الصعب قرار غير صائب، إضافة إلى إلمامه بقواعد التربية، المشيرة إلى أن تلبية كل مطالب الطفل بصرف النظر عن المقدرة، هي بمثابة تدليل وإفساد له، إلا أنه قرر المضي قدماً وحجز القاعة خوفاً من أن تتدهور أحواله الاقتصادية أكثر خلال الفترة المقبلة في ظل عدم الاستقرار وعدم ضمان إقامة عيد ميلاد أسطوري مجدداً حتى إشعار آخر! انتظار الإشعار الآخر لإقامة حفلات أعياد الميلاد طاول أسراً مصرية عدة قبل قيام الثورة، وتأثر بعضها جراء مصاعب الاقتصاد وعدم الاستقرار، فمجرد فكرة الاحتفال بعيد ميلاد الأبناء يصنِّفها كثر تحت بند «الأفكار المستفزة». علي السيد موظف أمن وأب لأربعة أولاد تتراوح أعمارهم بين 14 وخمس سنوات، لدى سؤاله عن الاحتفال بأعياد ميلادهم يحدق في الفضاء ويحاول جاهداً تذكر آخر مرة احتفل فيها بتلك المناسبة. وبعد أن أعياه التفكير قال: «آخر مرة احتفلنا بها بعيد ميلاد محمد البكر كانت من 13 أو 12 عاماً، لا أتذكر تحديداً، لا سيما أنها كانت المرة الأولى والأخيرة. أتقاضى 400 جنيه شهرياً، ومجرد التفكير في عيد ميلاد يبدو أمراً سخيفاً. أبنائي أنفسهم لا يتذكرون أعياد ميلادهم»! نسيان أعياد الميلاد ومن ثم إسقاط بند الاحتفال بها، وسيلتان دفاعيتان لدرء خطر تحميل موازنة ملايين الأسر المصرية، المتخمة أصلاً، بما لا طاقة لها به. الدراسة التي أُعلنت نتائجها قبل أيام من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تساعد في تسليط الضوء على أسباب «نسيان» كثرٍ أعياد الميلاد، فنحو نصف (43.6 في المئة) مداخيل المصريين تنفق على الطعام والشراب، ونحو 18 في المئة يبتلعها البيت ومستلزماته، ويأتي العلاج والدواء في المرتبة الثالثة، إذ يستهلكان نحو 6.5 في المئة من الدخل، وتبتلع بنود الانتقالات والاتصالات والتعليم الباقي، ما يعني أن الحديث عن أعياد الميلاد أقرب إلى اللغط في أغلب الأحوال. لكن الواقع يشير إلى أن هذا اللغط يكون أحياناً واقعاً لا بد منه. أبناء الطبقات المقتدرة نسبياً نجحوا في الخروج من مطب كلفة أعياد الميلاد، ولكن بطريقتهم «المقتدرة» الخاصة. حاتم (17 سنة) وأصدقاؤه لا يفوتون الاحتفال بأعياد ميلاد أيٍّ منهم، وتبدو الإجراءات واضحة وبسيطة وموحدة. «فايسبوك» يذكِّر الجميع بأن غداً هو عيد ميلاد فلان، ما يعني توجيه التهنئة إلكترونياً، ومن ثم اختيار مكان الاحتفال. وفي الوقت المحدد يتوجه كل من يرغب في الحضور الى المكان، فيأكلون ويشربون ويغنون «سنة حلوة يا جميل»، ثم يسدد كل منهم فاتورته، و«يا دار ما دخلك شر»! ويبدو أن المصريين القدماء كانوا أوفر حظاً من أحفادهم، إذ إن أعياد ميلاد أبنائهم لم تكن ضمن بنود إنفاقهم، فقد اكتفوا بالاحتفال بعيد ميلاد واحد طوال العام، وهو عيد ميلاد «أوزوريس» الذي عاش ومات ثم عاد إلى الحياة على هيئة شجرة خضراء، هي شجرة عيد الميلاد.