في مصر لا تكاد العين تغفو إلا بصعوبة بالغة. عندما تكون هناك لا يمكنك أن تقاوم. فجمال البلاد يسلبك الإرادة. في مصر تجد منابع الفكر والثقافة، تنهل أروع القيم وأرق التعابير وأثمن الحكم، تنغمر بمزيج من العراقة والحداثة، مشارب الفكر وعناوين التنوع، فيها امتداد بلا أفق لسيل متدفق من الإبداع الفني والأدبي، وعلى ضفاف هذا السيل المتواصل يرتوي كل من يحتاج إلى شراب فكري طهور، يروي الظمأ ويتغلغل إلى شرايين النفس والروح، ليحملها على أكف مخملية من السمو الوجداني، تستمع إلى صوت أم كلثوم في المقاهي، ويتسرب إلى أذنيك عود القصبجي، وألحان السنباطي ودندنات عبدالوهاب والشيخ إمام، وتصلك كلمات أحمد رامي وأحمد فؤاد نجم، وتأسرك أوركسترا القاهرة السيمفوني وأوبرا عايدة، ويواجهك محمود مختار وأحمد زويل ويوسف شاهين وهيكل ونجيب محفوظ، تقرأ لإحسان عبدالقدوس وتستمع لعبدالحليم حافظ وتستمتع بمحمد صبحي وعادل إمام، وتقف مشدوهاً أمام جامعة القاهرة العظيمة ودار الأوبرا وقصر البارون وقلعة محمد علي. من أعماق أعماق التاريخ تفوح على أعتاب الحضارة الحالية عراقة الحضارة الأولى، لتخاطبك الآثار المنتشرة على سطح مصر، لتخبرك عن قصص المبدعين الأوائل الذين تحدّوا كل مقاييس القدرة البشرية على الانتصار على الطبيعة، اكتشفوا أسراراً ما زلنا عاجزين عن اكتشافها، وأبدعوا أسراراً لا يمكننا حتى الآن سبر أغوارها، فبنوا الأهرامات العملاقة ونصبوا أبو الهول وشيّدوا معبد الكرنك وحفروا قناة السويس بأيديهم وحنّطوا الجثامين بترياق البقاء الأبدي وابتدعوا الزراعة والتخطيط والتنظيم والفنون الحرفية والعسكرية وأسسوا حياة اجتماعية مثالية في التعاون من أجل استمرار البقاء. كانوا أول البناة وأول الفلاحين وأول العلماء وأول الموحدين وأول الحكام وأول الجيوش. هزموا الهكسوس والتتار وأنقذوا البشرية من الفناء... في مصر تتهافت قدماك على شوارع مكتظة بالوجوه الباسمة والقلوب الطيبة. تتهادى قدماك من دون كلل لتصل أولاً إلى مسجد من مساجد القاهرة الفاطمية، تصلّي في الأزهر وتتنسك في الحسين وتتأمل في السيدة زينب... تقابلك عظمة الكنيسة القبطية والكنيسة المرقصية، فهذا مرقد القديس مرقص أو كنيسة مار جرجس وما بينهما من مقام ناسك أو صالح أو ولي من أولياء الله الصالحين لتمر بين كل ذلك على المعبد اليهودي لتقفز بعيداً وتغوص في أعماق الفكر المعاصر من كل معتقدات وأفكار البشر، لا حكر على الأفكار ولا حظر على التفكير ولا سقف للأحلام. في مصر دائماً تحاول أن تبدأ من جديد. مياه النيل المنسابة منذ الأزل تذيب داخلك أفكار الثبات والسكون لتنساب الأفكار معها برفق كتيار النهر الخالد وعلى شواطئها يتكسر اليأس في أعماق قلبك كانكسار الموج على صخور الإسكندرية وتتوالى الدمعات في مخاطبة أعماق البحر الأحمر في شرم الشيخ وتكتشف أعماق نفسك كشفافية مياه مرسى مطروح وتشرق شمس حياتك من جديد كبزوغ الشمس من خلف جبل الطور أو سانت كاترين لتحييك في كل يوم بامتزاج خيوط الشمس الذهبية مع عصير القصب السكري لتقول لك في كل يوم صباحك سكر لتبدأ نهاراً سعيداً يدخلك إلى حيز الإبداع بلا مقدمات. في مصر كل شيء ممكن إلا الفوضى والخراب، لا يمكن أن تكون هذه الشوارع المدمرة شوارع مصر أو هذه الميادين التي تحتلها الدبابات ميادين مصر أو هذه المتاجر المحطمة المنهوبة متاجر مصر، ولا يمكن أن تكون هذه الوجوه الواجمة والخائفة وجوه شعب مصر ولا يمكن أن يكون الظلام مستقبل مصر هذه ليست مصر التي في خاطري. وجيه أبو ظريفة - بريد إلكتروني