يُلام المثقف السوري كثيراً بشأن تعاطيه الخجول مع الاحتجاجات المناوئة للنظام المندلعة منذ منتصف آذار مارس الماضي. غير ان هذا اللوم فيه بعض الإجحاف والغبن، ولعل هذا ما عززته وقائع الثورة ذاتها وكيفية التعاطي الأمني معها. ولم يكن المثقف السوري بمنأى عن هذا التوجس الأمني، حتى ان التعبير الذي ينسب الى وزير الدعاية النازي غوبلز"كلما سمعت كلمة مثقف تحسّست مسدسي"، ينطبق بمعنى من المعاني على الحال السورية في ما خص الاشتباك بين"الثقافة والسلطة". المثقف السوري"المعارض"، أو بالأحرى الذي لم يقدم فروض الطاعة والولاء، وحافظ على استقلاليته، وتشبث بصوت الضمير، تعرَّض طوال عقود للسجن والملاحقة والاهانة والنفي الطوعي أو القسري، واستُهدِف حتى في لقمة عيشه، ولنا في هذا المقام أمثلة لا تحصى، تبدأ من المثقف الحصيف ميشيل كيلو والراحل محمد الماغوط والمنفي سليم بركات وياسين الحاج صالح وعارف دليلة وفرج بيرقدار وصبحي حديدي ومصطفى خليفة صاحب رواية"القوقعة"التي توثِّق ل"سجون البعث"، مروراً بعشرات، بل مئات الأسماء، التي رغم دفعها الأثمان الباهظة، ستبقى صورتها ناصعة في ذاكرة السوريين، وصولاً الى الحادثة المدبرة التي تعرض لها رسام الكاريكاتير المعروف علي فرزات، الذي كسرت أصابعه على ما اقترفت من رسوم تدين الطغيان والاستبداد. نحن إذن إزاء أرشيف قاتم ومخيف راكمته السلطات السورية في تعاملها مع كل صوت يشدو خارج السرب، سواء حمل قلماً أو ريشة أو كاميرا، أو أنشأ حتى مجرد مدونة إلكترونية أو صفحة على الفايسبوك والتويتر... تلك أدوات رغم هشاشتها ورِقّتها، لم تسلم من سطوة الأجهزة الأمنية، التي أحصت على البشر أنفاسهم واجتهدت ل"سَوْق الجميع"الى"رخاء الرسالة الخالدة"، وكان للمثقف نصيب وافر من هذه الممارسات القمعية، التي اختزلت حرية التعبير الى قصائد مدح للنظام، وسط سيل من المزاعم حول المقاومة والممانعة والصمود، إذ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ولعل آخر هذه"الانتصارات"جاءت من أروقة مجلس حقوق الإنسان، الذي اصدر مؤخراً تقريراً يدين ممارسات النظام السوري في التعامل مع المعتقلين، ويروي تفاصيل مرعبة عن التعذيب في السجون والمعتقلات يتسامى القلم عن تدوينه... الى درجة أن طاغية ماريو بارغاس يوسا في روايته المدهشة"حفلة التيس"، يبدو"حَمْلاً وديعاً"بالمقارنة مع ما تقوم به الأجهزة الأمنية السورية. رغم هذا السجل الحافل بالانتهاكات، لم يشأ عدد كبير من المثقفين السوريين ان يقف متفرجاً وهو يرى القتل اليومي على الشاشات، بل غامر بتسجيل انطباعاته ومشاعره ورؤاه عبر قنوات وطرائق مختلفة، وهو إذ فعل ويفعل ذلك، يعلم أنه يسير في حقل ألغام لطالما كان المثقفون ضحاياه. لكن نداء الحرية القادم من أعماق روحه كان أقوى من كل أدوات القمع، ويمكن ان نذكر سريعاً بعض الأسماء، على سبيل المثال لا الحصر: من المخرج السينمائي أسامة محمد وشقيقته الشاعرة والسينمائية هالا محمد والمخرج هيثم حقي، الى الروائيات سمر يزبك وروزا ياسين حسن، إلى الفنان فارس الحلو ومي سكاف وفدوى سليمان، الى الروائي نبيل سليمان وزياد عبد الله وخالد خليفة... وتطول القائمة بحيث يصعب حصرها. واقع متأجج وبدت النصوص المبعثرة هنا وهناك، على نبلها وبلاغتها، عاجزة عن مضاهاة الواقع اليومي المتأجج، وعن رصد دقيق لهذا الحراك المحموم الذي تعكسه الفضائيات بجهود شباب مجهولين يخاطرون بأرواحهم في سبيل تصوير جزء من مآثر الثورة السورية. أما النصوص تلك، فبدت خافتة النبرة تستطلع هموم الثوار وشجون الوطن، وبالكاد تترجم حرارة التظاهرات وحماسة الحناجر التي تهتف بإسقاط النظام. وهذا ليس ذمّاً بقدر ما هو توصيف لواقع الحال، فالكتابة -عادة- تنضج على نار هادئة، وهي تحتاج الى وقت كاف في انتظار جلاء الملابسات والخفايا حتى يستطيع الكاتب الاحاطة بالمشهد من جوانبه المختلفة لا بدافع من الانفعال العابر، بل انطلاقاً من مهمته في توثيق تاريخ المغلوبين والمعذبين في الأرض. في المقابل، هناك مثقفون سوريون حافظوا على الاستمرار في خيانة دورهم ووظيفتهم، وظلوا مدافعين عن نظام لا يني عن تقويض إنسانيتهم، وهؤلاء -على كثرتهم - مجرد أرقام تسعى الى الاحتفاظ بامتيازاتها ومناصبها ومصالحها الشخصية، ناهيك عن أنهم يفتقرون الى الموهبة، وهو ما يعفينا من ذكر أسمائهم هنا، حسبنا الإشارة الى أنهم تلاميذ ع. ع. ع. الذي شوه أجيالاً وجزءاً من الحياة الثقافية في سوريا، من مبنى اتحاد الكتاب العرب في حي المزة إلى ساحة الأمويين حيث مبنى التلفزيون ودار الأوبرا ومكتبة الأسد، مروراً بالصحف الرسمية الثلاث وكتبتها، وصولاً الى حي الروضة حيث مؤسسة السينما السورية... ستعثر على جوقة من المنافقين الذين غضوا الطرف عن القمع الرسمي، وراحوا يجمّلون ويلمعون صورة القائد الملهم وسياسته الحكيمة في وجه"المؤامرة التي تحاك ضد البلاد"يا لهذا التعبير السمج الممل، الذي يتكرر بغباء منذ عقود. ولعل أخطر ما يسوّق له هؤلاء"الكتبة الصغار"، هو الجمع بين سوريا كوطن متنوع الأعراق والطوائف والاثنيات، وبين نظام"بعثي"مستبد، بحيث يصبح -من منظورهم- أيُّ نقد للنظام هو استهداف للوطن. هذا الخلط الجائر دفعت بالفنانة مي سكاف الى اطلاق صيحتها المدوية:"إنها سورية العظيمة، وليست سورية الأسد"، ذلك ان جميع المنتفضين يعشقون وطنهم بصدق لكنهم يرفضون نظاماً ينكر عليهم كل شيء، فأين المؤامرة في بشر يسعون الى معانقة نور الشمس ويبحثون عن تلك الحرية العصية المنال، والتي أراد الشاعر الفرنسي بول إيلوار أن يكتب اسمها فوق الأشجار والثلج والدغل والصحراء والسحاب والحقول ونسمة الفجر والبحر وأجنحة العصافير وصدى الطفولة والدفاتر المدرسية وفوق كل لحم مستباح و.. و.. و... مختتماً القصيدة: وبقدرة كلمة واحدة/ أبدأ ثانية حياتي/ فأنا ولدت كي أتعرف عليك/ كي أسميك... حرية.