خاطبت فلسطين العالم، باسم قيمه، وذكرته بالتاريخ والجغرافيا، وأعطته درساً في الأخلاق، التي جوهرها الحرية، أي حضور الذات الإنسانية بشروط ذاتها. قد لا يسمع بعض العالم، لأن آذانه مستعارة أو معارة، وقد يسمع البعض الآخر ولا يفهم، لعلة بنيوية فيه، أو لعلل سياسية مزروعة في فهمه، وقد تستجيب البقية الباقية، فيكون للتفاعل مع استجابتها شروطاً ووقائع وحسابات. لكن الصدى المتفاوت، للصوت الفلسطيني، لدى العالم، يجب أن يلقى أصواتاً عربية مؤازرة وداعمة ومشجعة، هذا أقل"الإيمان العربي"، في الإنتصار لقضية الشعب الفلسطيني، الذي ما زال البعض يكرر أنها قضيته المركزية. لنزح"المركزيات"جانباً، ولندع النقاش يدور فوق أرض المصالح، هذه التي سيكتشف أولي الأمر، أن تأمينها المستقر، لن يتم إلا في مسار الانتساب إلى آليات حل معضلة الاستقلالية الفلسطينية، إي بعث الكينونة المنفية للشعب الفلسطيني، واستحضارها، وتركيزها ضمن مدى جغرافيا معلوم غير معتدى عليه، وفي ظل نظام حر غير مقيد، إلا بقيود القوانيين والمواثيق الدولية، شأنه في ذلك شأن سائر الأمم، التي عانت من الإحتلال، وعرفت طريقها الوطني الخاص، إلى الخلاص منه. التقدير السائد، هو أن السياسة الصائبة، التي قادت الرئيس أبو مازن إلى الأممالمتحدة، قامت على حسابات واقعية، أخذت في الاعتبار الواقع الفلسطيني وامتداده العربي، ودققت في احتمالات الموقف العالمي، ووضعت في الحسبان الكلفة المتوقعة التي ستترتب على خطواتها السياسية المهمة. وفقاً لتقدير الموقف السياسي هذا، الذي حكم أداء القيادة الفلسطينية، تشكل اللحظة الراهنة محطة صراعية جديدة، في مسار النضال الفلسطيني، ونقلة نوعية، يحتاجها الداخل الشعبي، الذي يتمسك دائماً بالسياسات ذات الآفاق المفتوحة، ويرفض النزول إلى ما دون سقف الأمل المستقبلي. ما الذي وضعته القيادة الفلسطينية في ميزان الحسابات؟ أغلب الظن أن البعد السياسي غلب على ما عداه من الأبعاد، وحسم الوجهة العامة، على هذا الصعيد سهّل الإنتقال إلى نقاش الكلفة، التي سيكون على البنيان الفلسطيني دفعها. لقد توصلت القيادة الفلسطينية إلى حقيقة لا لبس فيها، هي أن ديمومة التفاوض، بالشروط الإسرائيلية، لن توصل إلى نتيجة، وأن سياسة الإستيلاء المتواصلة، على الأرض، لن تترك للدولة الفلسطينية الموعودة، أرضاً تتفاوض عليها. إدارة الظهر الإسرائيلية، للفلسطينين، وللرأي العام، من أمامهم ومن خلفهم، قامت على تقدير ضعف الموقف الفلسطيني، واستضعافه، والاعتقاد أن السلطة في رام الله، باتت مقيدة بقيود وجودها، أي باستمرار اقامتها ضمن خانة ما تسمح به الإدارة الإسرائيلية. ما أعلنه محمود عباس، وبالصوت العالي، أن الفلسطينين لن يرهنوا قضيتهم ببقاء سلطتهم، وأن ما يعتبره الإسرائيلي كابحاً، لاندفاعة الفلسطيني وتقدمه، يهدد هذا الأخير بتحويله إلى اندفاعة من دون كوابح. استفاد الوضوح الفلسطيني، ليكون واضحاً، من اليوميات العربية، التي ترفع يافطات التغيير، والتي حققت مكاسب في أماكن، وما زالت تسعى لذلك في أماكن أخرى. الأهم من هذه اليوميات، فرض الإرباك على المستويات الحاكمة، سياسياً، وإذخالها في مسار الاحتمالات غير الآمنة، وغير المحسوبة، هذا ما أنتج معادلة مؤسفة، قوامها كل اهتزاز في الجوار المتدخل، من دون وجه حق سياسي، في فلسطين، يثمر استقراراً في الداخل الفلسطيني. هكذا يضيف الوضع العربي ذاته إلى الحركة الفلسطينية، تحت وطأة الضعف الشعبي المندلع داخل أكثر من بلد. على الخط ذاته، بدا لصانع القرار الفلسطيني، الضعف الذي تعانيه الإدارة الأميركية، وإخفاقاتها المتحققة في عدد من جبهات المواجهة، التي فتحت باسم الحرية والديموقراطية!. بوادر الضعف والارتباك، الأميركية، لعبت دوراً مشجعاً في تحفيز الإقدام الفلسطيني، على خلفية، أن العجز الأميركي المعلن، في ميدان الهجوم، إقليمياً، وفي مجال اقتراح الحلول فلسطينياً، سيظل عجزاً في مواجهة المطالبة بحق فلسطين، في الحصول على مكانة الدولة، ضمن الأسرة الدولية. الكلام البائس، جاء من فلسطين ذاتها، حيث"الشريك الحماسي"، لم يتعب من حماسته، مع أنه غادر منذ زمن زخم فعله. بين سطور خطاب"سلطة غزة"، تقرأ الطفولة السياسية، التي تكتفي بالشعار المزايد، ولا يستشف من المعنى إلا التكرار"التاريخي"، حول عداء الغرب وطمع الاستعمار وغطرسة العدو الصهيوني. ثم ماذا عن الغد السياسي الفلسطيني؟ لا شيء سوى توفير مقومات الهدوء والاستقرار والديمومة"للإمارة"، التي إن اشتد ساعدها... ضاعت كل فلسطين. تغيب الوطنية، بمعانيها الفلسطينية، عن خطاب"حماس"وتحتل الفئوية الضيقة كل مفاصل الخطاب. هذا ما يعطي لحركة التحرير الفلسطينية، بعضاً من المغزى، وهذا ما يعيد استحضار التاريخ بقوة، لأن في الأمر مرجعية توضيحية، تسمح بتفسير هذا المسلك السياسي أو ذاك. بإيجاز، ورث محمود عباس بعضاً من تقاليد ياسر عرفات، ذلك القائد الذي صاغ المحصلة النضالية الفلسطينية وأقام عندها. وورثت"حماس"تراثاً من الخصومة السياسية"لكل أشكال التحرر الوطني"، وأقامت في كنف الأنظمة التي قمعتها أو حالفتها، إقامة ساكنة أو متعايشة، وهي ما زالت أمينة لهذا التراث من الخصومة الإلغائية. في الموسم الفلسطيني الحالي، تزداد الحاجة إلى طرح الأسئلة الصائبة، وإلى المساهمة في ابتكار الحلول الناجعة، فما ينتظر"قضية العرب"، بعد محطة الأممالمتحدة، سيكون أصعب بكثير، مما كان عليه الوضع قبلها. * كاتب لبناني