سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
استضاف أم كلثوم وعبدالوهاب وأمسيات الأخطل الصغير ... وأثر في الوجه الثقافي للمدينة في القرن العشرينپ. "التياترو الكبير" في وسط بيروت يتحول فندقاً ... جريمة تراثية أم ذكاء استثماري ؟
رماه القدر في مدينة معروضة للبيع في مزاد علني دائم، وبين مواطنين يعانون ضعف الذاكرة. هو ليس مجرد عقار. إنه"التياترو الكبير"الذي بني عام 1929 بمبادرة فردية من جاك ثابت، ملّ انتظار مسح الغبار عنه واشتاق إلى أصوات الممثلين والمغنين وأنغام الموسيقى وخطى الرواد ورهبة الأضواء. هذا الصرح الذي صمّمه وزير الأشغال في عصر الانتداب الفرنسي المهندس يوسف بك أفتيموس، سيصبح بعد ثلاث سنوات سلعة تؤجر في اليوم، بأسعار باهظة، لرجال أعمال أتعبتهم صفقات تجارية، أو لسياح مترفين أو"رومانسيين"عابرين... هو الصرح الذي شهد صَولات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ويوسف بك وهبي، والكوميديا الفرنسية وأمسيات شعرية صاخبة للأخطل الصغير. واليوم هو عرضة لوظيفة جديدة، بعيدة كل البعد عن تاريخه والهدف من وجوده... لمصلحة الربح المحض. لو كان لل"تياترو الكبير"صوت لرندح على وقع الجرافات العاملة على تحويله الآن إلى"فندق تراثي"بوتيك أوتيل بأغنية"يا غائباً عن عيوني وحاضراً في خيالي، تعال هدئ شجوني طالت عليّ الليالي..."، التي أطربت بها أم كلثوم جمهور"التياترو"ذات ليلة من العام 1931، لكن لا حياة لمن تنادي... فاللبنانيون غارقون في تحصيل لقمة العيش واللهاث خلف الزعماء. والدولة تبحث عن نفسها منذ انتهاء الحرب الأهلية 1975-1990. أما التوثيق لصرح غيّر معالم المدينة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ففيه تكمن النكتة السمجة، إذ لا وثائق رسمية تؤرخ لبناء"التياترو"وعمله والفنانين الذين مروا عليه. لا شيء سوى شهادات شفوية نقلتها رموز ثقافية من تلك المرحلة إلى صحافيين. على مسافة أمتار من مبنى"التياترو الكبير"المسيّج، تجد الشبان المولجين بركن السيارات الوافدة إلى مطاعم وسط بيروت. هم هنا يومياً. تسألهم عن التياترو، فينظر بعضهم إلى بعض: ما هو التياترو؟ مطعم أم مقهى؟ تلجأ إلى سيدة خمسينية علّها تشفي غليلك، فتقول بلهجة استفهامية:"موجود في القاهرة لا؟". في أحد المقاهي، ممثلة وراقصة شابة لم يسطع نجمها بعد، وتبادرك بأنه"موجود في وسط بيروت لكن ربما هُدم أو نقلوه إلى قصر اليونيسكو"! فلا عجب إذاً ألا تفهم عليك العاملة في أحد أهم مراكز التوثيق في البلد عندما تطلب منها وثائق عن"التياترو الكبير". كأنك تكلمها بلغة أهل الكهف. تسأل:"أهو حيّ؟ منطقة؟ مبنى؟ ما هو بالتحديد؟". أما شركة"سوليدير"المالكة والمشغلة لوسط بيروت، والتي قرّرت تحويل"التياترو"إلى"بوتيك أوتيل"، فلم ترضَ إدارتها مقابلتنا، مفضلة الإجابة عن أسئلتنا عبر البريد الالكتروني. ومعلوماتها غير دقيقة أيضاً. ففي حين يورد السينمائي محمد سويد في كتابه"يا فؤادي"، أن"التياترو"بني عام 1927، تفيد"سوليدير"بأنه"بني في 1929 وتوقف العمل فيه كتياترو عام 1940، وتحول صالة سينما حتى عام 1975". هذه كلها تواريخ لا أحد يملك تأكيدها. لكن لماذا انتظرت"سوليدير"التي رفضت التصريح عن الكلفة الإجمالية للمشروع، حتى عام 2011 لتبدأ بترميم"التياترو"، في حين رمّمت كل البنايات من حوله منذ سنوات؟ ويأتي جواب"سوليدير":"عملت الشركة لوقت طويل على دراسات معمقة تناولت جميع النواحي التاريخية والفنية بهدف الحفاظ على التياترو الكبير التاريخي ولترميمه بأفضل الطرق. كما حرصت، قبل البدء بالترميم، على اختيار الأسلوب الأفضل، إضافة إلى انتقاء وجهة الاستعمال الأنسب التي تحفظ ذاكرة هذا المبنى وتاريخه وتكون منتجة عملياً بحيث توجد فرص عمل مع ضمان استمرارية صيانته والحفاظ عليه". ولماذا اخترتم الفندق تحديداً مشروعاً لتشغيله، بدل أن يعود مسرحاً وطنياً أو داراً للأوبرا أو بيتاً للثقافة والفنون؟ يفيد بريد الشركة بأن"التياترو الكبير كان مسرحاً صغيراً في وسط بيروت، أما الطوابق الأخرى للمبنى فكانت تستخدم إما كفندق صغير أو شقق للايجار. ومع تطور متطلبات المسارح لجهة وضع التجهيزات التقنية المطلوبة لإقامة حفلات مهمة، ونظراً إلى صعوبة تطوير التياترو وفقاً لمعايير تلك الحقبة، تحول التياترو إلى سينما عام 1940. وبناء على الدراسات التي أجرتها، قررت سوليدير إعادته الى ما كان عليه. إن صالة التياترو الكبير le Grand theatre des Milles et une Nuit ستبقى من ضمن المشروع الجديد، مع المحافظة على معالمها التاريخية كما كانت عليه وستخصص لاستقبال النشاطات الفنية والثقافية. أما الأجزاء الأخرى من المبنى، إضافة الى الأبنية المجاورة، فستحول إلى فندق مميز". ويؤكد بريد"سوليدير"أن"التياترو لا يصلح تقنياً لأن يتحول إلى دار اوبرا، إذ سيتطلب ذلك معايير حديثة ومتطورة ومساحة أكبر لتأمين عدد كاف من المقاعد وأجهزة حديثة لتوزيع الصوت لا يمكن توافرها في التياترو من دون هدمه وإعادة بنائه، الأمر الذي يهدد بفقدان المبنى طابعه التاريخي. أما بالمحافظة عليه، فيبقى المبنى معلماً تاريخياً وسياحياً يجذب الزوار والسياح. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود رؤية لإنشاء مركز للمسارح والحفلات الاستعراضية في وسط بيروت ضمن مشاريع السنوات الخمس المقبلة". رهيف فياض: جريمة ينفي المهندس رهيف فياض كلام"سوليدير"حول صعوبة تحويل التياترو إلى دار أوبرا، ويرفض فكرة تحويله إلى فندق بحجة أنه كان قبل الحرب نزلاً رخيصاً وشققاً مفروشة، كما تفيد"سوليدير". يتساءل:"هل المبنى الذي تشغله بلدية بيروت ملائم لأن يكون ما هو عليه؟". ويجيب:"طبعاً لا، لكنهم تعاملوا معه كمبنى تراثي وبنوا مكاتب ملحقة تتلاءم وعمل البلدية"، لافتاً إلى أن"سوليدير يمكنها تكييف التياترو ليكون من أهم المسارح أو المراكز العالمية المعاصرة". وهنا يتّفق المخرج المسرحي الفرنسي - اللبناني نبيل الأظن مع فياض، فيقول:"عندما قدمنا"لوعة حب"عام 1999 في التياترو، كان رائعاً لناحية توزيع الصوت والخشبة والإضاءة الآتية من السقف المفتوح، على رغم حالته الرّثة بعد الحرب، كما أنه ليس صحيحاً أنه لا يمكن تجهيزه ليتلاءم مع العصر إلا بهدمه". ويرى فياض أن"تغيير وظيفة التياترو الكبير وتحويله الى فندق خمس نجوم هما جريمة تمحو جزءاً مهماً من ذاكرة بيروت الجماعية، وتعادل تدمير البرلمان أو هدم بلدية بيروت، لأن المبنيين شيّدا في الفترة التاريخية نفسها". وتكمن أهمية مبنى التياترو، وفق فياض، في قيمته الجمالية التي تحمل لغة ذاك العصر اللبناني، إذ تدمج الإسلامي بالمحلي والغربي، وهو من أوائل المباني التي صممها معماريون لبنانيون، ناهيك بقيمته المعمارية التراثية، إذ بناه يوسف بك أفتيموس وهو من كبار المعماريين مطلع القرن العشرين، وشغل منصب وزير الأشغال في حكومة الانتداب الفرنسي، وهو نفسه الذي صمّم بلدية بيروت الحالية، ومبنى البركات على تقاطع السوديكو والذي سيحول الى متحف لذاكرة بيروت". يؤكد فياض أن"التياترو الكبير"مصنّف مبنى تراثياً وفق وثائق"سوليدير"وكتاب"انبعاث بيروت"بقلم أغنوس كيفين، كما صنّف تحت خانة"الأمكنة العامة والمدنية"public and civil facilities. بالتالي"علينا التعامل معه كما تعاملنا مع المباني المجاورة على أقل تقدير". ويشرح أن"التياترو"يؤشر إلى نهاية أحد المحاور الأساسية الثلاث لوسط بيروت، على المستوى المديني. ويرى فياض أن موقع التياترو، بالقرب من"دار الثقافة والفنون"التي تبرعت سلطنة عُمان ببنائها في وسط بيروت، يجعله مثالياً كملحق أو مكمّل للدار، أو ربما لتحويله مكتبة عامة أو بيت للثقافة والتراث مسرح، زجل، مطبخ للتدريب على الأكل اللبناني، معارض، حرف، رقص، تعليم الدبكة، وكل ما يتعلق بالتراث اللبناني. رومانسية ويقول المهندس زياد عقل، المشرف على تصميم الفندق الجديد، بالاشتراك مع البريطاني ريتشارد روجرز:"حاولنا التعامل مع محيطنا واحترام القديم. أنا ضد زيادة طوابق، لذا عدلنا عن المخطّط الأول، وسنزيد طابقاً واحداً فقط، من الزجاج والحديد على شكل مظلات ويندرج ضمن الحداثة القصوى Ultra modern التي تنسجم مع المباني القديمة المحيطة بالتياترو، ونكون بذلك احترمنا هوية المكان". ويضيف:"لكننا سنبني أعمدة من الخلف، للأجنحة والغرف المميزة العالية، لنستفيد من المساحة المتبقية بجعلها حديقة خضراء". ويضيف:"سندعّم الحجر ونمتّنه جداً، ليكون مضاداً للهزات الأرضية، إضافة الى وضع خطة ضد الحرائق". لكن ماذا عن المسرح العريق؟ يجيب عقل متردّداً:"قد يبقى، لكنه لن يكون مسرحاً متخصصاً، بل سيتحول إلى"بانكويت روم"أي قاعة للحفلات والاستقبالات والمؤتمرات، التي قد تتخلّلها نشاطات ثقافية، لا أدري، لكن المقصورات والفتحة في السقف ستبقى للمحافظة على روح المكان". واللافت أن كلام عقل هنا يتعارض مع ما أشارت إليه"سوليدير". إستعادة"التياترو الكبير"هي قضية رأي عام، لكن"من الصعب أن ينشأ رأي عام لبناني واعٍ يطالب به، لأننا شعب لا يهتم بالتراث ومهووس بالحداثة الظاهرية، كما أن التراث وزنه ضعيف في هذه الأيام"، كما يقول فياض. ويتّفق عقل معه، معتبراً أن"ليس في لبنان إيمان بالثقافة، لا من جانب الدولة ولا من جانب الشعب. ولو كان اللبنانيون حريصين على الثقافة والتراث لكانوا تظاهروا في الطرق انتصاراً للتياترو". ويضيف عقل:"التراث يجب أن تدفع ثمنه الدولة والرأي العام، فمالكو المباني التراثية هم ضحايا اليوم، كون صيانتها تكلّفهم الكثير، لذا تلجأ غالبيتهم إلى هدمها أو بيعها". ويتساءل نبيل الأظن:"أين اللبنانيون من هذه الجريمة في حق الثقافة اللبنانية؟ لا يكفي أن يحتفظوا بالواجهة الأمامية للتياترو كما فعلوا مع المباني الأخرى التي تشعرك، في وسط البلد، بكأنك في عالم كومبيوتر لا روح فيه". يعتبر زياد عقل، الذي رمّم كثيراً من مباني وسط البلد، أن ترك هذه المباني التراثية بلا ترميم هو الجريمة، واصفاً من يقولون إن تحويل التياترو إلى فندق هو جريمة، بالرومانسيين:"هناك مبانٍ لا يمكن إنقاذها إلا مع وظيفة حديثة، مثل فيللا عودة وقصر سرسق الأشرفية. وتحويل التياترو فندقاً هو حلّ كي لا يُهدم، لكنه ليس حلاً مثالياً وأنا أعترف بذلك، إلا أننا بتحويله نواجه الموضوع بدل أن نكتفي بالنقد والكلام". ويرى أن"تعظيمنا للتراث، وتعلّقنا بالماضي، فيهما مفارقة. ففي حين ترانا مولعين بالحفاظ على الحجارة القديمة، نرفض أن تكون لها وظيفة اجتماعية واقتصادية واضحة. وهنا تكمن الأسطورة الرومانسية". ويضيف:"كنت أتمنى أن نعيد التياترو مسرحاً وصرحاً ثقافياً، لكن ذلك يتطلب أن تتبناه مؤسسة كبيرة أو الدولة اللبنانية، لكن للأسف لا سياسة حكومية مدينية للمحافظة على التراث وللإنتاج الثقافي بشكل عام، وكل ما يُنجز هو مبادرات فردية". الثقافة: ما باليد حيلة "لا يحقّ لوزارة الثقافة اللبنانية، التي تندرج تحت وصايتها مديرية الآثار، التدخّل في أعمال"سوليدير"الترميمية أو الإعمارية، إلا في حال اكتشاف قطع أثرية تعود إلى ما قبل العام 1700"... هكذا يختصر مستشار وزير الثقافة اللبناني ميشال دو شادرفيان صلاحيات الوزارة. وعلى رغم وجود قانون لبناني يوجب الحفاظ على الأبنية التراثية، وتحاول الوزارة الحالية تعديله ليشمل المباني القديمة ذات القيمة الجمالية والتاريخية، فإن الوزارة"ما بيدها حيلة لأن التياترو ملك سوليدير"، كما يقول دو شادرفيان. ويضيف:"كنا نتمنى لو استطاعت الوزارة شراء التياترو أو استئجاره من شركة سوليدير كي نعيده مسرحاً، لكن موازنة مديرية الآثار لا تتخطى الستّة بلايين ليرة لبنانية 4 ملايين دولار أميركي، وهي بالكاد تغطي رواتب الموظفين ومصاريف المكاتب". ويقول:"ما فعتله سوليدير بالتياترو، وفي وسط المدينة ككل، هو جريمة مشرّعة بدأت في التسعينات".