أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهني في كل مرّة أقرأ فيها كتاباً جديداً تطاول الجديد الذي يحمله الكتاب، والإضافة التي يمكن أن يقدمها للموضوع الذي يكتب فيه أو للمكتبة العربية، والغاية من كتابته، وسوى ذلك. وقد أجاب كتاب حسام عيتاني"الفتوحات العربية في رواية المغلوبين"الصادر هذا العام في بيروت عن عدد من تلك الأسئلة، فالكتاب نقدي وجريء، وفيه جهد كبير ومضنٍ، ويشكل إضافة للمكتبة العربية، لأن موضوعه جديد على الدراسات التاريخية العربية، إذ لأول مرّة على حدّ علمي وقراءاتي، يتم فيها تناول موضوع الفتوحات العربية من وجهة نظر الشعوب المغلوبة، حسبما رواها ودوَّنها الأخباريون والمؤرخون منهم، ومقارنتها مع الرواية العربية الرسمية أو السائدة، العائدة في معظمها إلى الرواية العباسية وما تلاها من بناء وإضافة عليها، بما يعني فحصها بشكل علمي ومراجعتها ونقدها. ولا شك في أن صعوبات عديدة تعتري عملية الفحص والتنقيب التاريخي، خاصة وأن المادة التاريخية القديمة لا تتوافر بشكل كاف للمقاربة والمقارنة، وعادة ما تؤخذ مما كتبه الرواة والأخباريون وكتّاب الحوليات، وتعتمد على انتماءاتهم وأهوائهم وخلفياتهم الفكرية والثقافية، وكُتبَتْ بالاستناد إلى ما اختزنته الذاكرة من أحداث ووقائع وأمكنة، ويصعب استخلاصها من مطارح الذاكرة، ومن التفاصيل الأخبارية، مع العلم أن الروايات التاريخية ?بشكل عام- تتفارق في احتضانها للذاكرة أو في احتضان الذاكرة لها، وذلك بالرغم من أن الذاكرة التاريخية توحي بكل ما فارق الحاضر ومضى، لكنها تبدو في عيون المهزومين رحماً دافئاً وجليلاً، أو بيتاً قديماً من بيوت الزمن والتاريخ التي لم يتمكن النسيان من محو صورها. يبدأ حسام عيتاني من تلمّس صورة العرب وصفاتهم وتسمياتهم لدى الشعوب المحيطة بهم، حيث لم يك هناك إجماع بين مؤرخي الشعوب المغلوبة على أصل العرب وصفاتهم، مع أنهم لم يكونوا مجهولين عند جيرانهم الذين شملتهم موجة الفتوحات العربية الأولى. ويجد هذا القول سنده في قيام عدد من الأحلاف بين العرب والشعوب المجاورة لهم، إلى جانب نشوب عدد كبير من الحروب والغزوات، وفي العلاقات الوثيقة التي كانت تربطهم بالمراكز الحضارية المحيطة بالجزيرة العربية، وخاصة في مجالات التجارة وما رافقها من مستويات متنوعة من التفاعل والتبادل في العادات والمعارف والثقافة، الأمر الذي يشير إلى أن العرب كانوا يشكلون جزءاً معتبراً من سكان المنطقة الممتدة من جنوبالعراق وصولاً إلى سواحل شبه جزيرة سيناء، ومعروفين في تلك التي تقع خارج الحدود الطبيعية والتقليدية لشبه الجزيرة العربية، ويطاول ذلك بلاد الشام ومصر وفارس وبيزنطية. وبالرغم من كل ذلك، فقد عُرفَ العرب في المصادر التاريخية للشعوب المغلوبة بأسماء متعددة، مثل"السراسنة"و?"الطائيون"و?"الهاجريون"و?"المهاجرون"و?"الإسماعيليون"نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل، ووردت هذه الأسماء حتى لدى المؤرخين الإغريق والرومان الذين تعرفوا إلى العرب قبل الإسلام، وعلى سائر المؤرخين الذين قلدوهم في ما بعد، وتعكس تأثرهم جميعاً بالرواية اليهودية لأصل العرب ونسبهم. ومن الطبيعي في حالة الفتوحات العربية، أن تختلف روايات الغالب كثيراً عن روايات المغلوب، وأن تفترق الرواية العربية للأحداث والمعارك عن الرواية البيزنطية وعن الرواية السريانية، أو الرواية الشامية للتاريخ العربي التي تعرضت إلى حملة منظمة لاجتثاثها من الأذهان من طرف العباسيين قبل تدوين التاريخ العربي، في سياق الانتقام من الأمويين وطمس حقبتهم. مشكلات في تثبيت الحكم ويركز عيتاني على الطابع المفاجئ للفتوحات العربية - الإسلامية، على المستوى التاريخي، وعلى الترابط والتزامن بين نتائج حروب الردة وبين الفتوحات العربية، التي وقعت عند منعطف مهم في تاريخ الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية الساسانية، اللتين خرجتا من حروب طويلة ومدمرة بينهما، وكانتا تعانيان من مشكلات في تثبيت الحكم عندما عصفت بهما الفتوحات العربية. ويعتبر أن الشعوب التي طالتها الفتوحات، لم تلاحظ على الفور اتساع نطاقها، نظراً إلى الصور النمطية القديمة السلبية التي تحملها عن العرب، كما لم يكن المضمون الديني للحركة العربية الواسعة مفهوماً في أعوام الفتوحات الأولى. وقد نظر سائر المؤرخين المسيحيين وسواهم في تلك الفترة وما تلاها إلى حدث الفتوحات من وجهة دينية بحتة، حيث اعتبروا انتصار العرب ودخول المسلمين بلادهم عقاباً من الله على ذنوب قومهم، و?"مؤامرة يهودية"في بعض الأحيان، ولم يلتفتوا إلى الأسباب الاجتماعية والظروف التاريخية التي أدت إليه. ويعزو عيتاني تصورات كتّاب الحوليات من البيزنطيين والفرس أو من مسيحيي المشرق في القرنين السابع والثامن، الذين ربطوا الفتوحات العربية بمعطيات الغيب، إلى كون الأدوات المعرفية التي كانت في حوزة كتّاب الشعوب المغلوبة، والمتحملة أوزار حقبة الفتوحات، لم تتجاوز الأدبيات الدينية واللاهوتية التي سادت بعدما انحسرت الجوانب العقلانية من الحضارة الهلينية، بفعل مئات الأعوام من الصراع مع الوعي الديني. وتجد التفسيرات الدينية سندها القوي في آراء رؤساء الكنائس المتنازعة، الذين راحوا يلقون اللوم على بعضهم في التسبب بمجيء العرب، مشدِّدين على أن خطايا البعض أعمق وأخطر من خطايا الآخرين، حيث ألقى اليعاقبة اللوم على البيزنطيين وعلى آثامهم منذ مجمع خلقدونيا واضطهادهم أبناء الكنائس الأخرى، في حين أن البيرنظيين اعتبروا دخول العرب مصيبةً أنزلها الرب باليعاقبة المهرطقين، ولم يبتعد المؤرخون الفرس ورجال الدين الزرادشتيين كذلك عن لوم الذات في التسبب في انتصارات العرب وفتوحاتهم. أما القبائل العربية التي سكنت المناطق المجاورة لسورية والعراق ومصر، فلم تكن لتقبل بخضوعها للفتح، حتى لو كان على أيد عربية، لو لم تتح لها الفتوحات في الشمال الحل الجذاب لمشكلاتها الاقتصادية في شبه الجزيرة العربية. وقد وفّر الإسلام للفاتحين ثقة بالنفس ورمزاً للنصر والوحدة، إلى جانب أن أحوال العرب في حواشي سورية عشية الفتوحات العربية لم تكن قد استقرت بعد، كونهم تلقوا ضربة ثانية أثناء الاجتياح الفارسي في العقد الثاني من القرن السابع، إثر التوصل إلى تسوية مع البيزنطيين، في حين أن الفتوحات الإسلامية التي بدأت في مناطق شرق الأردن، الخاضعة وقتها للحكم البيزنطي، كانت مفاجئة للقسطنطينية، التي اعتقدت في بادئ الأمر أن الهجمات العربية لا تزيد عن كونها غزوات بدوية من تلك التي خبرتها النواحي المتاخمة لشبه الجزيرة العربية. ويعزو عيتاني الانهيار البيزنطي السريع أمام الفاتحين العرب، إلى السياسات الخرقاء التي تبناها الإمبراطور موريسيوس ضد الغساسنة وقضائه على مملكتهم، والحروب الفارسية - البيزنطية، والانشقاقات الدينية، والفوضى والارتباك والاستخفاف بالقوات العربية وبالعرب المسيحيين، والحماسة الإسلامية للدين الجديد، ولامبالاة سكان المناطق التي هاجمتها جيوش الفتح بعد عقود من المناكفات والمشاحنات بين الكنائس المحلية وكنيسة القسطنطينية حول الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة والطبيعتين، إلى جانب الأزمة المالية التي كانت بيزنطية تعاني منها بعد الغزو الفارسي، والتعالي البيزنطي على العرب، ووجود روابط نسب وقرابة بين العرب الموالين للروم والآخرين المشاركين في قوات الفتح. وفي حالة مصر، يتوقف عند حقيقة أهملتها النصوص القديمة، ثم عاد إليها المؤرخون في العصور الحديثة، وتقول بأن الانقسام الديني بين الملكيين وأعداء المجمع الخلقيدوني من الأقباط لم يترافق مع انقسام إتني مواز بين اليونانيين والمصريين، معتبراً عدم وجود فصل قاطع بين الفئتين العرقيتين اليونانية والقبطية عشيةَ حصول الغزو العربي، حسبما أوحى بذلك بعضهم عن خطأ. إضافة إلى ان مصر، وخصوصاً عاصمتها الكوسموبوليتية، الإسكندرية، كانتا ساحة صراعات تشبه في الكثير من الوجوه ما شهدته المراكز المدنية البيزنطية الأخرى، كالقسطنطينية وأنطاكية، بين حزبي الخضر والزرق. أما حالة إيران، فلم تشبه حالة سورية، ذلك ان السوريين وجدوا في الانتماء إلى الدولة العربية حلاًّ لمشكلة غياب السلطة السياسية تحت الاحتلال البيزنطي مقابل حضور الهوية الوطنية الممثلة في الكنائس اليعقوبية والهرطقات المختلفة. أعباء كثيرة ويعتبر حسام عيتاني أن الفاتحين العرب ألقوا أسئلة وأعباء كثيرة على كاهل الشعوب المغلوبة، وعلى أنفسهم في الوقت ذاته، وذلك عندما باتت المجتمعات المغلوبة تواجه المسائل الحياتية الأهم من المعارك، وتتصل بملكية البيوت التي يقيم فيها جنود الفتح والأراضي التي تُقطِعهم إياها الدولة الاسلامية وحقوق الرعي والجزية والخراج، وموقع من أسلم من أبناء المناطق التي احتلها العرب في هرمية اجتماعية لم تخرج بعد من طورها البدوي. وراحت تلك المجتمعات تبتكر حلولاً تعيد بها تنظيم أمورها الداخلية التي قرر العرب ألاّ يتدخلوا فيها تدخلاً مباشراً، لكنهم كانوا يفرضون رقابة صارمة على سيرها، كي لا تخرج إلى الحيّز السياسي الذي ظل أرضاً حراماً على غير المسلمين. وقد لجات المؤسسات الدينية المسيحية والزرادشتية، إلى رسم حدود لعلاقات أفرادها مع الفاتحين ومع من يعلن إسلامه من سكان البلاد الأصليين، في حين أن الفقه الاسلامي راح يتلمس الاختلافات بين الاسلام والأديان الأخرى، وبناء مواقفه في المعاملات والأصول من المسائل التي استُجِدّت في حياة المسلمين. وإن كان من الصعب الإحاطة تماماً بكل تناوله حسام عيتناني في كتابه، فإنه يمكن القول إن ما قام به من فحص الرويات التاريخية المختلفة حول الفتوحات العربية، التي شكلت حدثاً تأسيسياً بامتياز للتاريخ العربي، يساهم في تكوين وعي تاريخي منسجم، للماضي وللتراث، وبالتالي يمكن البناء عليه للوصول إلى مفهوم لزمانية الفتوحات العربية، وفق منهجية تدرك الحاضر وتهضم الماضي وتتطلع إلى المستقبل، ذلك أن الإشكال الذي يواجهه المؤرخ العربي يتجسد في تصور الزمن التاريخي وتدوين الخبر الذي ارتبط برواية قصص المعارك وحكايات الغزوات، وليس في التاريخ، ونتج عنه خلق أزمنة عديدة، حيث بات لكل نمط تاريخي زمنه الخاص، ولكل وعي تاريخي زمانيته، الأمر الذي أدى إلى غياب الزمن التاريخي وغياب التصور البيّن للعصور والأحداث التاريخية الماضية.