يستهل المؤرخ التركي المعاصر فريدون إمجن Feridun M.Emecen كتابه المهم الذي صدر حديثاً بترجمة عربية للراحل الأديب عبدالقادر عبدللي بعنوان «الفتح 1453م، فتح إسطنبول وعلامات الساعة»، بالحديث أن هذا الكتاب يعتمد في الأساس على أحد كتبه السابقة عن «فتح إسطنبول ومشاكله» عام 2003م، مع إضافة جديدة حول رؤى القيامة المنتظرة وفتح القسطنطينية. غير أن المؤلف يعترف منذ البداية بأن النقص الكبير في المصادر العثمانية المعاصرة لهذا الحدث الجليل قد جعله أسير المصادر البيزنطية واللاتينية، «مما يخلق إشكالية كبرى تنبغي مقاومتها». ويحاول منذ البداية تبيان الجديد في كتابه حول صورة القسطنطينية في المصادر الإسلامية (عربية وتركية) قبل الفتح بوصفها مدينة ذات شؤم ولعنة وأنها سوف تسقط في آخر الزمان. فاهتم إمجن بما كتب عن القسطنطينية في التراث الديني الإسلامي بخاصة الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن فتح كل من القسطنطينية وروما. ولم ينس كذلك الاعتماد أيضاً على بعض الكتابات البيزنطية الأولية ذات الصلة. غير أنه أغفل الحديث عن النبوءة البيزنطية القديمة التي تحدثت أيضاً عن سقوط المدينة التي بناها قسطنطين الأول عندما يحكمها إمبراطور أخير يحمل اسم قسطنطين أيضاً. (راجع أيضاً مقالتنا بمجلة التفاهم: النبوءات والرؤى والمراثي المتعلقة بفتح المسلمين القسطنطينية 1453م، العدد40، ربيع العام 2013م، ص 227-244). ويحاول إمجن الإجابة عن السؤال المتعلق بندرة المصادر التاريخية العثمانية حول موضوع الكتاب بالقول أن عملية التأريخ العثماني لم تكن قد نضجت بعد في القرن الخامس عشر الميلادي. وأن هدف المدونات التاريخية الأولى التي كتبت على استحياء كان هدفاً أخلاقياً بالمقام الأول، الى جانب الرغبة في مديح الأسرة العثمانية. ويتحدث المؤلف عن ثلاثة أنواع من المصادر العثمانية التي تناولت ذلك الحدث التاريخي الفذ. المصادر الرسمية أو الفتح نامات التي أرسلها السلطان محمد الفاتح الى السلطان المملوكي إينال في القاهرة، والى حاكم قبيلة الشياة البيضاء في الأناضول وغيرهم من الحكام المسلمين. وهي مصادر كتبت عقب الفتح مباشرة. ومصادر شهود العيان العثمانيين الذين عاصروا الفتح واشتركوا به. وهو ما تمثله فقط كتابات طورسون بك وابن عاشق باشا. (غير أن إمجن لم يشر الى أنه على رغم مشاركتهما الفعلية في أعمال حصار وفتح القسطنطينية فإنهما لم يقوما بتدوين ما حدث إلا بعد مرور أربعة عقود على الفتح، بعدما بلغا الثمانين من العمر وأنهكت الذاكرة. فلم يكتب الأول سوى بضع صفحات، بينما باقي الكتاب تمجيد في السلطان الفاتح، بينما كتب الثاني بضعة أسطر وباقي الكتاب حديث عام عن منجزات العثمانيين الأوائل). ثم مصادر عثمانية أخرى لم تشهد الفتح بل كتبت فيما بعد، على عهد بايزيد الثاني مثل نشري والقونوي وادريس بتليسي وقوامي وأوروج بك. تناول المؤلف رغبة السلطان الفاتح في تحقيق ما عجز عنه أبوه وأجداده واقتحام القسطنطينية. وكذا تحدث عن المفاوضات بين الإمبراطور البيزنطي الأخير قسطنطين الحادي عشر والسلطان الفاتح، بخاصة بعدما قام الأخير ببناء قلعة الروميلي على الضفة الغربية للبوسفور والتي كانت إعلاناً صريحاً عن نوايا العثمانيين في حصار المدينة ومنع كافة المساعدات البحرية عنها. ثم تطرق المؤلف بعد ذلك الى الوضع البيزنطي الداخلي بالقسطنطينية وقت الحصار الذي بدأ في نيسان( أبريل) العام 1453م، واستنجاد الإمبراطور بالبابوية والغرب الأوروبي. ووصول أولى المساعدات رفقة الكاردينال إيزيدور الذي وصل للمدينة في الأساس من أجل مهمة دينية وهي ضم كنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية تحت لواء كنيسة روما الكاثوليكية. حدث هذا في الوقت الذي رفض فيه رجال الدين البيزنطيون عملية الاتحاد الكنسي، كما انسحب البطريرك جيناديوس الى صومعته بعدما قام بتعليق بيان على بابها يقول باختصار: «إنني أفضل الموت على الردة عن العقيدة الأرثوذكسية». وفي الوقت الذي تقاعست فيه البابوية عن تقديم المساعدة العسكرية للمدينة فقد تحركت مدن البندقية وجنوا بشكل منفرد، وتقاعس ملك نابولي أيضاً. وهكذا تمثلت المساعدة الحقيقية في القائد الجنوي جستنياني وجنوده، إذ قام الإمبراطور بتعيينه قائداً للدفاع عن المدينة. كما تناول المؤلف استخدام البيزنطيين السلسلة الحديدية لإغلاق خليج القرن الذهبي أمام السفن العثمانية. ثم نجاح السلطان الفاتح في نقل السفن العثمانية من طريق البر من خليج البوسفور الى داخل مياه القرن الذهبي. وكذا أحداث الهجوم العثماني من خلال المصادر التاريخية العثمانية والبيزنطية حتى فتح المدينة صباح الثلثاء 29 أيار (مايو) 1453م، مع التعرض للروايات حول مقتل الإمبراطور البيزنطي، من دون التطرق الى الأسطورة التي شاعت حينذاك عن أن الأخير قد رحل الى مكان مجهول من أجل حشد قوات جديدة لهزيمة العثمانيين ومطاردة المسلمين حتى أراضي شبه الجزيرة العربية. ويثبت هنا فريدون إمجن أنه أهم المؤرخين الأتراك المعاصرين الذين كتبوا عن الفتح العثماني للقسطنطينية، معتمداً على المصادر الأصلية الإسلامية (عربية وعثمانية) والمسيحية (بيزنطية ولاتينية وروسية وصربية). غير أنه أغفل أيضاً بعض المصادر الأرمينية المهمة التي تناولت ذلك الحدث المأسوي بالنسبة لمسيحيي الشرق الأوروبي. ولا تنبع ريادة إمجن العلمية من اعتماده على المصادر التاريخية المتنوعة فقط، بل من تمتعه بحس نقدي عالٍ لم يتوافر لعديد المؤرخين المسلمين (أتراكاً وعرباً) عند معالجة بعض المسائل المهمة في تفاصيل الحصار العثماني للقسطنطينية. من ذلك، نقل السلطان الفاتح لسفنه ليلة 21 – 22 نيسان 1453م من البوسفور الى القرن الذهبي في ليلة واحدة مستخدماً الطريق البري، مشيراً الى أنه على رغم ورود هذه الرواية في جميع المصادر العثمانية والبيزنطية واللاتينية فإنها تعد مسألة جدلية وغير واقعية. (سبق أن قام إمجن بمناقشة ذلك بالفعل في إحدى دراساته التي اعتمدت عليها في أحد أبحاثي السابقة)، وبعدما أشار الى الرأي القائل أن هذه السفن لم يتم سحبها من البوسفور وجرها عبر البرّ بل تم بناؤها على ساحل خليج القرن الذهبي، فإنه يذكر رأيه الشخصي: «لابد من القول أن المسافة التي قطعتها السفن – مهما قصرت – فإن نقل السفن في ليلة واحدة هو أمر غير ممكن حتى في يومنا الحالي حيث تتوافر الإمكانات التقنية الضخمة. لذا من المحتمل أن الأمر قد خطط له وتم تنفيذه منذ زمن طويل. ومن الطبيعي أن ذلك قد تم بعيداً من أعين البيزنطيين». وهناك مسألة أخرى قام فيها بتحليل جيد، وهي الخاصة بالعبارة الشهيرة التي تم نسبها للقائد العسكري البيزنطي نوتاراس المكلف بالدفاع عن القسطنطينية والتي قال فيها: «إنه لمن الأفضل لنا أن نرى عمائم الأتراك المسلمين في شوارع القسطنطينية على أن نرى فيها قلنسوات رجال الدين اللاتين». ويمكننا بالطبع تفهم ذلك في ضوء ما نعرفه عن الكراهية المذهبية المستعرة بين البيزنطيين الأرثوذكس واللاتين الكاثوليك منذ أحداث الحملة الصليبية الرابعة التي قامت بتدمير وحرق القسطنطينية العام 1204م. على أن مؤرخنا يذكر أنه لا يوجد دليل حقيقي على قول نوتاراس لتلك العبارة التي أطلقها على الأغلب بعض المعارضين البيزنطيين المتطرفين للوحدة الكنسية التي تم فرضها في كنيسة آيا صوفيا، تحت وطأة الحصار العثماني. تتبقى ملاحظة أخيرة على الترجمة، وهي لا تخص القدير الراحل عبدللي فقط، بل تخص المترجمين الذين يعرفون اللغة ويغيب عنهم الحس التاريخي الخاص بالعمل المترجم. مما يتسبب في حدوث اضطراب في أسماء وأحداث الفترة التي يجرى التعامل معها. وهو ما ظهر في سلسلة من الهنات التي تجلت للمتخصصين، مثل استخدام اسم إسكندر النسطوري غير مرة في الكتاب، بينما كان المؤلف يتحدث عن نسطور – إسكندر الشاهد الروسي على فتح المدينة. وكان اسمه الأصلي نسطور وعندما أسره العثمانيون قاموا بتغيير اسمه الى إسكندر. وكذا أنكونالي سيرياكو، الذي يعرفه القارئ العربي باسم سيرياكو من مدينة أنكونا الايطالية. وعلي، الذي يقصد به المؤلف المؤرخ العثماني مصطفى عالي. ثم فرنجة الغرب الجزائري، بينما هم الفرنجة سكان الجزر الغربية. فضلاً عن عدم تعريب المصادر والمراجع الأجنبية الموجودة في هوامش الكتاب، بل يجب تركها بلغتها الأصلية حتى يستطيع الباحث المتخصص العودة الى أصولها.