انهى كاتب السيناريو والمخرج الصيني جيا جانغ-كي البالغ من العمر 40 عاماً والمنتمي الى"الجيل السادس"، سلسلة وثائقية أبعدته لأربعة اعوام عن الافلام الروائية. وصور في الضواحي العديمة الروح التي كانت تسحره، تحولات شنغهاي. وتناول ثماني عشرة شخصية، واقعية، تروي تاريخها الخاص في تلك الحاضرة الضخمة التي ترمز إلى انقلابات الصين المعاصرة. ثورات سياسية وثقافية واغتيالات وتدفق السكان... ومن شنغهاي في ثلاثينات القرن الماضي الى المدينة المتحولة لاستقبال المعرض العالمي، يقدم أولئك الشهود رؤيتهم الحميمة المعذبة للتاريخ، مقابل الرواية التمجيدية الرسمية للحزب الشيوعي الصيني. ويسير جيا جانغ-كي دائماً على حافة سكين الرقابة الصينية قائلاً انه يأمل في تخطي الوثائقي"يا ليتني علمت"النزاعات السياسية ليلمس من قرب معاناة الشعب الصيني. ويقول المخرج ان الدافع الى تصوير فيلم وثائقي هو أن كل ما كان يحركه ارتبط بالتطور السريع للصين وبالتأثيرات الهائلة في الفرد. ويتابع:"بدأت إخراج افلام واقعية وأفلام روائية مع الممثلين. ومنذ فيلم"حياة جامدة"الذي حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 2006، شعرت بضرورة تنفيذ عمل وثائقي. ونفذت أولاً فيلم"مدينة 24"وهي قصة مدينة عمالية دمرها التطوير العقاري، ثم"يا ليتني علمت"في شنغهاي. وتتحدث الافلام تلك عن الحاضر من خلال رؤية الستينات والسبعينات أثناء الثورة الثقافية. وبالنسبة إلي، تبدو ملحّة العودة الى الماضي لمواجهة الاشكاليات المعاصرة. ومنذ نشوء الحزب الشيوعي الصيني تحتكر الدولة ما يزوره. وأشعر دائماً بصدمة حيال عدم معرفة الجيل الشاب أي شيء عن الثورة الثقافية أو أحداث ساحة تيانانمين. يؤدي ذلك الى استحالة حصول حوار بين الأجيال. لقد شعرت بضرورة جمع اقوال الشهود الذين ما زالوا على قيد الحياة. وينبغي على كل فرد المساهمة في رواية التاريخ". وعن انتاج افلام صينية تاريخية ضخمة، يقول جيا جانغ-كي ان ارادته القوية للانكباب على الماضي ولدت من الافلام هذه التي يظهر فيها دائماً الحزب الشيوعي منتصراً في القتال ضد اليابانيين وملحقاً الهزيمة بالكومنتانغ الصينيون الوطنيون المعارضون للشيوعية، في حين أن الحزب الوطني أدى دوراً رئيساً في الحرب ضد اليابان. وابتداء من اعوام التسعينات، بدأ الناس يشكّون في الرواية الرسمية. وبعد عرض افلامي في الصين، تجرى دائماً نقاشات حيوية بين اولئك الذين يبحثون عن الحقيقة مثلي، وبين الذين يشعرون بالأمان خلف الدعاية الرسمية. وعندما اسمع أناساً ينكرون وقوع بعض الفصول المأسوية من تاريخنا، أرغب في عرض شهودي لهم، وعرض تجاربهم المؤلمة، لحمل المشككين على الصمت. وغالباً عندما أصور ضحايا المجاعة الكبرى او الثورة الثقافية، يتملّكني احساس أنني انا ايضاً كان يمكن أن اقع ضحية". ويقول المخرج:"وبعدما درست المسألة، اكتشفت مراحل مرعبة من ماضينا. ومن الملحّ الإصغاء الى الشهود الأحياء. وأترك الناس يتحدثون، من دون توجيه المقابلات او محاولة الحصول على أي شيء كان. وأدرك انهم أولاً في حاجة الى ان يتكلموا عن انفسهم ومن ثم عن الاحداث. الحاجة الى التعبير هائلة". ويرى جيا جانغ كي أن الشعور الوطني لدى الأصغر سناً منه، شعور قوي جداً، بيد أن ذلك ليس حباً للبلد بل هو القومية التي يجرى التحكم بالناس عبرها. وهؤلاء مستعدون ل"حب"الامة بشغف ولكنهم يفتقرون افتقاراً تاماً الى هذه القدرة حيال جيرانهم او زملائهم. وبفضل التقدم الاقتصادي، نسمع، قليلاً في كل مكان من العالم، ان النموذج الصيني هو النظام الوحيد الفعال ويتعين تصديره. وأبدى الرئيس الايطالي بل والرئيس الفرنسي اعجابهما بالنموذج الصيني. وعندما يبلغ هذا النوع من الأخبار آذان الصينيين، فإنه يعزز من ثقتهم. ويجعلني ذلك أخاف. وأتساءل كيف يمكن ان يرغب أحدهم بتقليد نموذج مماثل يجرى التحكم فيه بالفرد. بالنسبة إلي يبدو هذا انحرافاً يفضي الى الفاشية. وفي ما يتعلق بإهماله موهبته كمخرج للأفلام الروائية، يوضح انه في أعماله الوثائقية التي تجذب الانتباه الى الشخصيات الواقعية التي يختفي وراءها، يصنع فناً سينمائياً. ويقول ان"يا ليتني علمت"ليس وثائقياً تقليدياً، لكنه لوحة شخصية لجماعة معينة. ثمة عمل ابداعي كبير في المونتاج وبناء السرد والطريقة التي جرى التصوير فيها. وعلى غرار ما فعل في"مدينة 24"، جرى ادخال الممثلين الى جانب الشخصيات الواقعية. وكان ذلك"فيلم مؤلف". ويقول انه يبدأ في العام الصيني الجديد في الثالث من شباط فبراير تصوير فيلم عن الفترة بين عامي 1897 و1911 تتناول نهاية السلالة الامبراطورية قبل قيام الجمهورية الصينية، التي سبقت حقبة ماو تسي تونغ، بصيغة فيلم عن الفنون القتالية ويتحدث عن الشرخ الاجتماعي في تلك الفترة. * مخرج سينمائي، عن"ليبراسيون"الفرنسية، 19/1/2011، إعداد حسام عيتاني