بعد مرور ما يقارب نصف قرن على إنهاء الحياة السياسية الطبيعية المتمثلة بالتعددية والحياة البرلمانية والحراك السياسي والاجتماعي في سورية الستينات، قسراً، وبعد إخضاع المجتمع إلى أقسى درجات «التوحد البعثي»، يمكن القول إن الانتفاضة الحالية حررت الحراك الاجتماعي من مرضه واستعادت ما يمكن استعادته من قوة البقاء. تنطبق على حال المجتمع السوري هذه فكرة طرحها الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل في مقال له عن وضع الثقافة في كل من النظام الاستبدادي والتوتاليتاري نهاية الأربعينات. فقد اعتبر أورويل أن الثقافة في ظل النظام الاستبدادي تشبه كائناً مريضاً قابلاً للشفاء، بينما تشبه في ظل التوتاليتارية كائناً يعيش لحظاته الأخيرة على سرير الموت. كان البعث في سورية مشروعاً توتاليتارياً بحتاً وحاول وضع المجتمع السوري برمته على سرير احتضار قسري، إنما البيئات الإقليمية والدولية المتغيرة أبقته ديكتاتورياً عسكرياً، ولذلك بقيت الثقافة، وفيها الحراك الإجتماعي، مثل فحم سريع الإشتعال، وقد اشتعل ولو متأخراً. لقد نجح النظام البعثي في توريط مجموعات اجتماعية في فلك نخبة أمنية وعسكرية مالية، لكنه فشل في «تبعيث» المجتمع وتزوير تاريخه ووضعه في غرف «المحو»، أو تبديله بتاريخ يمكن تسميته بالقطيعة البعثية. يذكرني حال سورية الراهنة، حيث التلويح بتوسيع دائرة القسوة ضد المنتفضين، بنقاش دار بين كل من الكاتب اللبناني حازم صاغيّة والكاتب العراقي كنعان مكية حول نظامي البعث في العراق وسورية، وإمكانية وصفهما بالتوتاليتارية. يسأل كنعان عن وصف صاغيّة للنظام السوري، هل هو توتاليتاري أم ديكتاتوري؟. ويختصر صاغيّة وصفه بهذه الكلمات: «نظام الأسد أقرب إلى نظام الديكتاتورية العسكرية (...) إنما لو دققنا النظر في طبيعة هذه الأنظمة نرى انها قادرة على ضرب الماضي والحاضر والمستقبل، فهي تضرب الحاضر من طريق نظامها القائم نفسه، وتضرب الماضي عبر تزوير التاريخ كما تشوّهه وتضعك أمام مشكلات في المستقبل حيث يصبح من الصعب إيجاد حلول لها. فلو عمل بشار الأسد على الانفتاح السياسي والليبرالي والديموقراطي، ستضعف الدولة، وإذا بقي على نهج والده ستظل البلاد تهترئ أكثر وأكثر وتضعف اقتصادياً واجتماعياً. لا يوجد حل: انظر إلى العراق مثلاً، مع صدام كان كارثة وهو من دونه كارثة. لقد نما عدد من التناقضات والأحقاد في المجتمع. من الصعب جداً...». لقد ضرب البعث منذ وصوله إلى السلطة عام 1963 البنى المجتمعية واشتغل على تفتيت المجتمع من جانب، وعلى الرهان على الطاعة للاحتفاظ برأسه من جانب ثانٍ. وتمخضت عن عقود من ضرب المجتمع بحاضره وماضيه و «مستقبله» ضمناً ثقافة اجتماعية وسياسية متورطة في العنف والفساد والخوف. وتالياً، أصبحت فكرة التغيير ضرباً من الألم أو تغاضياً عما يزيد الألم ذاته. ففي أحسن الأحوال، لا يمكن تصور مستقبل أفضل لسورية والسوريين من دون وقوع عدد كبير من الضحايا والجثث. قصارى القول: أصبح البعث كائناً متوحداً بعدما فشل في أن يجعل المجتمع «متوحداً»، وصار يعيد لعبة القتل العاري من دون هوادة. إنما المعضلة الكبرى التي سبقت هذه اللعبة وكرّست ممارستها المتكررة هي صناعة رجل الأمن والعسكر والمخابرات التي شملت شريحة واسعة من المجتمع وصار من الصعب عزلها عن مكونات المجتمع السوري وثقافته واقتصاده. ومن هنا تبدو عملية التغيير من دون ضحايا ضرباً من الخيال. ف «الشبيحة» لا يقتصرون على مجموعة من الأفراد الذين يدافعون عن مصالح النظام ومصالحهم ضمناً، إنما هم شكل من أشكال الدولة القومية العربية المعاصرة.