أشارك بحكم العمل في مؤتمرات وندوات ومحاضرات وأفضل أن أشارك في جلسة تضم معي متحدثين آخرين، لأنني إذا قصّرت أو أخطأت فسيظل هناك مشارك أسوأ مني. وكنت أعتقد أنني وحدي أخاف أن أقف خطيباً في مؤتمر ثم قرأت استطلاعاً أميركياً أظهر أن الناس يخافون الخطابة أكثر من أي شيء آخر، حتى الموت الذي حل ثالثاً في الاستطلاع. وعلق كوميدي مستنكراً نتائج الاستطلاع، وقال إنه لا يصدق أن الإنسان يفضل أن يكون داخل النعش على أن يكون الخطيب الذي يذكر حسنات"المرحوم". مع ذلك الخوف موجود، وامرأة سألت خطيباً قبل البدء هل يشعر بتوتر وبأن أعصابه مشدودة وهو يستعد للحديث، وأنكر ذلك وسأل المرأة لماذا تعتقد ذلك وقالت: لأنك في تواليت السيدات. الخطابة مهنة وتجارة، وثمة كتّاب يعملون لرؤساء الدول والحكومات، ويكتبون لهم ما يبدو وكأنهم يلقونه من الذاكرة فيما هم يقرأون من شاشة أمامهم. وتصوروا معي لو أن جورج بوش الابن كان يكتب خطاباته بنفسه، فربما كنا حتى اليوم نحاول أن نفهم ما يقصد، أو ربما كان الجيش الأميركي ذهب غازياً الى منغوليا. اليوم تحول توني بلير من سياسي بريطاني الى خطيب، وهو جمع الملايين من الخطابات التي يلقيها حول العالم، وأتصور أن الذين يدعونه مثله سياسة، فهو أقحم بريطانيا في حروب أميركا فدفع شبابها الثمن ولا يزالون يدفعون، ولا سبب سوى تلك"العلاقة الخاصة"المزعومة. ولو كان الأمر بيدي لحولت بلير الى محكمة جرائم الحرب الدولية بدل أن أسمعه يتحدث ويقبض مئة ألف جنيه كل مرة رغم الأزمة المالية العالمية ودوره فيها. لن أنكأ جراح القارئ وأذكره بغزو العراق والحرب التي زادت الإرهاب على العالم، وإنما أكتفي بالجانب الخفيف أو الهاذر من الخطابة، ففي الغرب هناك شكوى دائمة من عظة يوم الأحد في الكنيسة، أو ما يعادل خطبة الجمعة عند المسلمين، وكان قس رأى رجلاً نائماً في الصف الأول وهو يخطب فانتهر ابنه الجالس قربه وقال له أن يوقظ أباه. ورد الولد: أيقظه أنت. أنت أنمته. الكاهن قال لأبناء الرعية مفاخراً إنه يفضّل أن يكون خطابه قصيراً حتى لا يكون مملاً. وعلق أحدهم: هو كان قصيراً فعلاً، ومع ذلك كان مملاً. الخطيب المحترف يحاول أن يبدأ كلامه بنكتة تجتذب المستمعين، أو يحاول ذلك رئيس الجلسة الذي يقدمه. وسمعت واحداً من هؤلاء يقول للحضور: أرجو أن تكونوا استمعتم بوقتكم حتى الآن، لأن المتعة ستنتهي عندما يبدأ خطيبنا الكلام. وقال خطيب بعد تقديمه: عندما انتهي من الكلام ستجدون أن معلوماتكم لم تزد شيئاً ولكن عمركم زاد. اعترف بأنني بقدر ما أخشى أن أقف متحدثاً أخشى كذلك أن أجلس مستمعاً في الشتاء الى متحدث تتغير الساعة الى التوقيت الصيفي وهو لا يزال يتحدث، طالما أن عقله مغلق وفمه مفتوح. وكان هناك الذي قال: أريد أن أقدم اليكم الآن أعظم مرجع في موضوعنا الليلة، رجلاً يجمع بين المعرفة والأخلاق ودماثة الطباع، مع خفة الدم. وسكت الرجل قليلاً ثم أكمل قائلاً: أقدم لكم نفسي، فقد خشيت ألا يمتدحني رئيس الجلسة بما يكفي وهو يقدمني. ربما عدت في يوم قريب الى الخطابة عند العرب فقبل بوش وبلير وأمثالهما بألف وخمسمئة سنة كان عندنا بعض أفضل الخطباء الذين حفظت لنا كتب التراث خطبهم. ومضى يوم كان العرب فيه يحترمون الكلمة، وعبدالملك بن مروان هو الذي قال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن. وكان المستمعون لا يرحمون من يخطئ، وفي أحدهم قيل: خطبت فكنت خطباً لا خطيباً/ يضاف الى مصائبنا العظام. اليوم المصائب أعظم والخطباء أسوأ، وكان واحد من هؤلاء يخطب والمستعمون يصفرون صفير الاستهجان، إلا واحداً كان يصفق بحماسة. وشكره الخطيب فقال مستنكراً إنه كان يصفق تأييداً للاستهجان. واختتم بقصة، فقد طلب رئيس جامعة من محاضر زائر أن يتحدث عن العلاقات الجنسية المحرمة بين أعضاء جهاز التعليم والطلاب والطالبات. وكان المحاضر يدرك أن زوجته لا تحب هذا الموضوع فقال لها إن محاضرته ستكون عن الأخطار على الصحة من كثرة السفر بالطائرات. ولقيت المحاضرة استحساناً، واجتمعت زوجات الأساتذة مع زوجة المحاضر في"مول"قريب في اليوم التالي، وقيل لزوجة المحاضر إن زوجها أجاد، ويبدو أنه يعرف كثيراً عن الموضوع. وهي قالت: أبداً، هو عملها مرتين، مرة ضاعت حقيبته، ومرة أصيب بدوار. [email protected]