"... علينا التطرف في المفاوضات مع أعدائنا، حتى نجد ما نتنازل عنه أثناء التفاوض إذا ما اضطررنا لذلك، أما لو اعتمدنا التنازل سبيلاً من البداية والقبول بشروط الآخر، فإننا لن نجد ما تتنازل عنه حين تأخذ المفاوضات مجراها". هذه الكلمات للراحل المرجعية محمد حسين فضل الله، لا تزال ترن في أذني، مع أنها تعود في زمانها إلى تسع عشرة سنة خلت، فقد سمعتها منه في حوار أجريته معه في خريف 1991 في طهران في الثالثة صباحاً بعد انتظار لموعد دام يومين، وقد سبقني إليه عدد من الوكالات والصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعات لمعرفة رأيه في مفاوضات السلام التي انطلقت في مدريد بين العرب وإسرائيل. قبل ذلك اللقاء استمعت الى محاضرات العلامة محمد حسين فضل الله، عبر شرائط كاسيت أحضرها لي طلبة لبنانيون حين كنت أستاذاً في جامعة العلوم والتكنولوجيا، في وهران، وكانت تلك بداية معرفيّة كنا في حاجة إليها في زمن تجاذبت المجتمع الجزائري، بما فيه فئاته المثقفة، خطابات متباينة وأحياناً متناقضة ممن يدعون أنهم الممثلون الشرعيون للدين، فغيّروا مسار حركة المجتمع سياسياً، فانشغلت الأذهان، وتاقت إلى خطاب آخر ينطلق من رؤية مغايرة، وأحسب أن بعضاً من الجزائريين - على قلّتهم - الذين لم يغنهم التعصب المذهبي أو يعمهم، وجدوا في كتبه ومحاضراته سعة من أفق، لطالما سعوا إليه قبل التعددية وأثناءها وبعدها، جراء ضيق في الأنفس والرؤى، تراكم لعقود، فأوجد نوعاً من الاضطراب الفكري. لقد كان البحث عن الطرق المؤدية إلى الحوار هدفاً سعى إليه أولئك الذين أرادوا الجمع بين تراثهم الديني والتاريخ من جهة وبين المعاصرة من جهة أخرى، بعيداً من التعصب الديني في ظل تعددية كشّرت فيها كل جماعة عن أنيابها، لكن الحوار بما يقتضيه التعايش والمواطنة يتطلّب مرجعية معرفية يعوّل عليها لصوغ نمط جديد من التفاعل، يجعل المختلفين يتحاورون ولا يتقاتلون، ويبحثون عن المشترك بينهم ويعذرون بعضهم بعضاً في ما اختلفوا فيه، ووجدوا ضالتهم في أطروحات محمد حسين فضل الله، من خلال كتابه"الحوار في القرآن"لجهة تبيان التعامل مع الفكرة المضادة. لم تكن الجزائر وحدها تبحث في العشرية الأخيرة من القرن الماضي عن فضاء لحوار داخلي يقبل بالفكرة المختلفة، ناهيك عن المضادة، بل أحسب أنها حال عامة في أوطاننا العربية لا تزال قائمة إلى الآن، لهذا تم الترحيب في مرحلة أولى بأفكار فضل الله، ثم أخذت مجراها في الحياة الثقافية بين بعض عناصر النخبة، تداولاً ومواجهة لقوى إسلامية احتكرت المعرفة في مرحلة تالية، خصوصاً أنه عاد إلى الأسلوب الذي اتبع في القرآن الكريم، حين أتى على ذكر الفكرة المضادة للمشركين - المقصود بها هنا مضادة للحقيقة الإيمانية، في وصفهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم - حين قالوا عنه: شاعر ومجنون، فما أخفاها، بل سجّلها لتتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولتظل قائمة عبر التاريخ البشري إلى أن تقوم الساعة. من فضل الله تعلّمنا التعامل سياسياً وثقافياً وإعلامياً مع الفكرة المضادة، لجهة التحاور معها والقبول بها، وذكرها بصدق كما هي، لأنها تمثل، أحياناً النقيض، الذي يجعل للحياة المعنى، بخاصة على مستوى عالم القيم، وهو ما تسعى إليه البشرية في تجاربها الديموقراطية المعاصرة وفي مجالات حقوق الإنسان، وفي محاولاتها الجادة - بنسب مختلفة - لتوفير مساحات جديدة من الاعتراف بالآخر والتفاعل إيجابياً معه، ولكن ألا يتناقض هذا مع سعي فضل الله إلى وحدة الأمة الإسلامية؟ طرحه مسألة الفكرة المضادة من خلال كتابه"الحوار في القرآن"، يثبت إنجاز البشر لكسب مواقع في حركة الحياة ضمن ضوابط تحكمها قناعتهم ورؤاهم في الحياة بما فيها إيمانهم ومعتقداتهم، والأمة الإسلامية، مثل كل أمم الأرض، مطالبة بأن تؤمن بالخلاف الفكري والاجتهاد المذهبي، ومن هذه الزاوية يمكننا قراءة دعوته إلى وحدة الأمة الإسلامية، والسمو فوق خلافاتها المذهبية، ما يعني أن طرحه إثراء للبشرية وتجاوب مع متطلبات العصر وتفاعل من الإنجاز القيمي للبشر، وتثبيت للإيمان وتعميق له، بل وتثوير له عبر ما يحدثه من نقاش واسع بين أفراده وجماعاته. وبعيداً من التعصب المذهبي والتصنيف الديني والشوفينية الوطنية والانتماء القومي، فقد كان فضل الله علامة فارقة في حياة العرب والمسلمين، بل إنه، وقياساً بمفكرين عالميين أحدثوا تغييراً في مجتمعاتهم وأممهم، يعد مرجعاً عالمياً ما دامت رؤيته للحوار قد حرّكت بعضهم في مختلف المواقع، وحفظت نصاً مكتوباً، حيناً من الدهّر، ستلجأ إليه الأجيال كلما ابتغت التغيير هدفاً، أو التذكر فلسفة، أو الإيمان مخرجاً. * كاتب وصحافي جزائري. نشر في العدد: 17261 ت.م: 08-07-2010 ص: 10 ط: الرياض