كريم مروة في كتابه"نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"دار الساقي - لندن، بيروت، يدعونا إلى فهم متجدد لواقعنا، العربي واللبناني، على نحو يتحرر من أسر الأيديولوجيا والأفكار المسبقة، ومن الأيديولوجيات على اختلافها، لا سيّما تلك الطالعة من نظرة ثنائية إلى العالم، من الكون إلى محلياتنا الصغيرة، ومن جورج دبليو بوش إلى أسامة بن لادن وكل من يحذو حذوهما في التعميم والاختزال وشيطنة الخصم. وفي هذا الفهم محاولة للابتعاد عن الأحكام القيمية المستندة إلى نسق مجرد من الأفكار بحسب ما جاء في نص غرامشي الذي نقرأه في آخر الكتاب. ويجعل مروة من الدفاع عن حقوق الإنسان قضية النهضة الأساسية ويقول بمحاذرة الانزلاق إلى الشعبوية والمغامرة، اللتين تيسران أو تسوغان الاستهانة بها. غير أنه يدرك أن المسالك التي يحاول فتحها تبدو وعرة، لا بفعل العوائق التي تضعها جدلية الإخفاقات الاشتراكية وتحولات العصر الكبيرة فحسب، بل أيضاً بفعل بعض المواقف السياسية والخيارات الفكرية لليسارين القديم والمحدث أو المستحدث. ويستعين على الوعورة بالأمانة للواقع، وهي عنده التزام أخلاقي، فضلاً عن كونها مسألة معرفية، بحيث لا تستولي الغرائز على إعمال العقل ولا يتفوق تقديس النصوص وضعها خارج الجدل، على التساؤل والتردد والنقد. ويستعين أيضاً بنوع من اليوتوبيا، لا بوصفها خيالاً أو طلباً للمحال، بل بوصفها مبدأ للأمل، متصالحاً مع فكرة التغيير الديموقراطي، وعلى مراحل. فلا يكون الحلم والواقعية على طرفي نقيض، بل لكل مجاله واستقلاله عن الآخر وإن من دون انفصال، على غرار العلاقة بين الأخلاق والمعرفة. ويستعين ثالثاً بالعودة إلى البديهيات التي لا تعفينا بداهتها من ضرورة إزالة الغشاوات والالتباسات التي تحيط بها من غير صوب. وينطلق في رسم الملامح العامة للمشروع الجديد لليسار في العالم العربي من إعادة الاعتبار إلى السياسة. ويضع بناء الدولة في مقدمة القضايا. فالسياسة عند كريم مروة ليست"خناقة شرقية"، كما يسميها ياسين الحافظ، لا يعرف الكثيرون كيف بدأت ولا يعلمون متى تنتهي، بل هي تتعدى مجرد صراع على السلطة، يتوسل المضامين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وتشترط إعادة الاعتبار هذه تحرير العمل السياسي من الآفات الشائعة في بلداننا باسم السياسة، أي النفاق والخداع والتزوير والعناد والإفساد وإثارة الغرائز، والتي يعرفها أهل اليسار كسواهم، وفي بعض الحالات أكثر منهم. كما تتلازم عنده مع احترام التنوع وحق الأفراد والجهات في التعبير عن اختلافها ويدفعه ذلك إلى الدعوة إلى القطيعة مع ممارسة سادت لدى المجموعات السياسية، لا سيما الحركات التقدمية، والتي أعطت نفسها حق اتهام من يعارضها وقمع المختلف وتخوينه وممارسة العنف ضده، الفعلي والمعنوي، وذلك باسم امتلاك الحقيقة واحتكارها. ولعله في ذلك يضع تحت السؤال القاسي تلك النظرية المعرفية التي يحسب أصحابها أن منظومة أفكارهم علم فيما هي أيديولوجيا أو وعي زائف عند سواهم. كما يضع تحت السؤال ذاك المفهوم للدولة الذي لا يعترف باستقلالها، وإن نسبياً، عن الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية. ويرى، على هذا الأساس، ضرورة الفصل في الفهم والممارسة بين الدولة كمؤسسة دستورية والسلطات التي تأتي بالانتخاب إلى موقع القرار فيها وتتغير تغيراً دائماً. لذلك فإنه يشدد على أولوية بناء الدولة، الدولة الديموقراطية الحديثة، دول الحق والمواطنة. وعلى رغم أنه لا يشير إلى لبنان على نحو مباشر، لا يسعنا إلا التشديد معه على هذه الأولوية، لأسباب كثيرة لا يعوزها البرهان، وفي سياق سياسي حيث لا يجد البعض حرجاً في أن يبقى مشروع الدولة معلقاً والبلد بمثابة أرض منازلة، لا مجرد مواجهة لعدوان إسرائيل المتمادي. وفي سياق داخلي متصل، يثير كريم مروة، بلغة لا لبس فيها، سؤال العلاقة بين الهدف المبتغى تحقيقه من النضال والطريق إليه. ويبدو أنه، في ما يشبه القطع على حد قوله، أن العنف بكل أشكاله لم يعد صالحاً كوسيلة نضالية من أجل التغيير المنشود. والسؤال عن تلك العلاقة هو في حقيقة الأمر دعوة للانسجام بين الغايات النبيلة والوسائل المتعددة للوصول إليها. وهو في الوقت نفسه دعوة للمواءمة بين القيم والعمل من أجل سيادتها في كل الميادين. فلا ديموقراطية من دون ديموقراطيين، ولا تجاوز للطائفية من دون لا طائفيين. فالديموقراطية ليست مجرد خصائص للنظام السياسي بل ممارسة في نواحي الحياة كلها. والطائفية لا تكون بغيضة عند المطالبة بإلغائها ومشروعة عند استثمارها في التعبئة كما في الصراع على السلطة. أيها الأصدقاء، يخاطبنا كريم مروة، المثقف الحق والمناضل الحق والمجدد الحق، بقدر عال من النزاهة الفكرية أي من الصبر والشجاعة، ولا يفارقه التواضع، تعززه الخبرة والمعرفة والرصيد المعنوي ولا تقوى عليه. ولا يخفى على من يعرفه، بل على من يقرأه أيضاً، أن صدقية كتابه تنبع من كتاب حياته، من حاريص إلى صور وبيروت وبغداد وبودابست وفيينا وموسكو. وها نحن اليوم شهود لها. * وزير الإعلام اللبناني نشر في العدد: 17191 ت.م: 29-04-2010 ص: 21 ط: الرياض