هل تحول الإنسان العراقي لكثرة ملازمته البيت الى"كائن تلفزيوني"؟ يبدو أن الأمر أصبح كذلك، فأنت تجد الناس وهم يلتقون نهاراً في مقهى أو عمل، أو يمضون في حافلة سرعان ما يتحول الحديث بينهم، دون ان يكونوا، بالضرورة، على معرفة سابقة ببعضهم بعضاً، عن خبر بثته هذه القناة التلفزيونية، او تصريح نقلته قناة اخرى، وحديث او برنامج جاء على قناة ثالثة، ورابعة... لتجد أن الجميع قد شاهد ما يجرى الحديث فيه، الأمر الذي جعل الكثيرين يذهبون الى رأي قاطع بالنسبة لتقديراتهم، فحواه أن ليس من انسان في العالم اليوم"يرهن"نفسه لمشاهدة التلفزيون معظم ساعات ليله وبعض ساعات نهاره مثلما يفعل الإنسان العراقي! وهو ما وجد فيه بعض علماء النفس"حالة ادمان"قد تغدو، إذا ما استمر الوضع الأمني في البلد على حاله الحاضرة، حالة عامة. فالإنسان العراقي مكره، منذ سبع سنوات مضت، على لزوم بيته طلباً للأمن والأمان، فهو لايخرج نهاراً إلّا الى العمل، أو لإنجاز ما قد تستدعيه ضرورة ملحة... أما الليل فإن العزوف فيه عن ارتياد الأماكن العامة أصبح أمراً مشتركاً بين الجميع! ويعاد السؤال هنا: الى أي مدى سيكون تأثير هذه المشاهدة الفائضة ايجابياً أو سلبياً على هذا الإنسان وقد أفرط فيها؟ إغراء يقول رائد أنور، المعلم في إحدى مدارس العاصمة بغداد، إن ساعات ليله التي تمتد حتى منتصفه تكاد تكون مقتصرة على مشاهدة التلفزيون الذي، كما يقول، يوفر له الثقافة والتسلية معاً..."فأنا أشاهد نشرات الأخبار وبعض البرامج الذي يحلل تلك الأخبار، الى جانب البرامج الثقافية، فإذا ما شعرت بالإشباع منها تحولت الى برامج التسلية والترفيه التي هي أكثر ما أرتاح إليه وأشعر انه يريح أعصابي". سألناه عن قراءاته فأجاب:"الحقيقة لم أعد أشعر بحاجة كبيرة الى القراءة، ولا أفعل ذلك اليوم إلّا نادراً. أما الصحف فقد ألغيت قراءتها من برنامجي اليومي، لأنني لا أجد لها ضرورة أمام ما يأتيني به التلفزيون". أما نعيم حيدر، الموظف المعروف بين زملائه وأصدقائه بالاهتمام بالكتاب منذ أن كان طالباً في قسم الاجتماع بالجامعة، فهو، كما يقول، وجد نفسه في السنوات الأخيرة يقسّم ساعات وقته في ما يسميه ب"الحصار البيتي"نتيجة الظرف الأمني السيئ، والذي طالت مدته، على حد تعبيره، بين القراءة، التي كانت تأخذ كل وقته، ومشاهدة التلفزيون. ولكنه، كما يؤكد،"انتقائي في هذه المشاهدة. فأنا أبحث عن برامج بذاتها، وأتابع ما يهمني من مسلسلات وأفلام وإن كنت اجدها لا تعوضني عن الأفلام التي كنت أشاهدها مرتين في الأسبوع في صالات العرض التي انتهى وجودها في بغداد ما بعد الاحتلال. ويجد"أن التلفزيون مغرٍ، وهو كثيراً ما يشدني الى ما يقدم من برامج ومواد أخرى أجد فيها فائدة ومتعة". رهينة بينما يجد حسين... الموظف المتقاعد، نفسه"رهينة المشاهدة التلفزيونية"، كما يقول."ففي السنوات التي سبقت الاحتلال كانت لنا، نحن المتقاعدين، مقاهينا التي نلتقي فيها نهاراً... أما اليوم فإن الكثيرين منا يشعرون بمشقة الوصول الى تلك المقاهي، نتيجة الزحام الذي تشهده شوارع العاصمة بفعل الحواجز"الكونكريتية"ونقاط التفتيش الأمني أولاً، وبسبب الوضع الأمني الذي لا يبعث على الاطمئنان، ثانياً، ما يشكل ارهاقاً جسدياً ونفسياً لمن هم في سني، الأمر الذي دفعني الى"التعويض"بمشاهدة التلفزيون، فأنا أجد في قنواته المفتوحة على الكثير من التوجهات ما أستنفد به ساعات الفراغ دون أن يتسرب الملل الى نفسي". وعما يهمه اكثر من سواه ويحظى بمشاهدته، ذكر الى جانب نشرات الأخبار،"البرامج التي تنقل لنا أطرافاً من حياة العالم من حولنا". وهنا يعقب قائلاً:"إلا أن مثل هذه البرامج كثيراً ما تبعث الغم في النفس، إذ كثيراً ما أتساءل وأنا أشاهدها: لماذا كتب علينا ألا نعيش كما يعيش بقية العالم؟ فهم يعيشون حياتهم بملئها، أما نحن فنصبح على التفجيرات ونمسي على النزاعات بين الأطراف السياسية التي أصبحت أكبر من الهم على القلب". ويضيف ساخراً:"ولكني حين أشاهد ما يجرى في الصومال ونيجيريا أو السودان، وقد ابتلاها الله مثلما ابتلانا بالشقاق والنفاق، أقول مواسياً نفسي: كلنا في الهم شرق!" أمام هذا كله يبقى السؤال مطروحاً عن مدى التأثير المستقبلي ل"إدمان المشاهدة"هذا على انسان العراق الذي لا يجد من نوافذ الحياة ما هو مفتوح أمامه، وبسخاء، سوى شاشات التلفزيون؟ نشر في العدد: 17149 ت.م: 2010-03-18 ص: 34 ط: الرياض