نجح الرئيس باراك أوباما على الأرجح، مستنداً إلى رؤية مبعوثه الخاص لعملية السلام جورج ميتشل، ونائبه جو بايدن، بالإضافة الى حركية أوروبية ناشطة دعماً لخياراته الترميميّة، في صون الحد الأدنى من العدالة للقضية الفلسطينية، على رغم الانحياز الأميركي التاريخي لإسرائيل. ويبدو جلياً، ولو أن ذلك بقي غير معلن، أن تركيا أدّت دوراً تأسيسياً في إعادة الروح الى دينامية عملية السلام، لاقاها في هذا الدور عودة عربية عبر تفويض الجامعة العربية منظمة التحرير الفلسطينية إجراء مفاوضات غير مباشرة ضمن مدة أربعة أشهر، ما يعني تحديداً للمهل في رمزيّة تتلاقى مع ما أعلنه سابقاً العاهل السعودي من أنّ المبادرة العربية للسلام لن تبقى على الطاولة الى الأبد. في كلّ الأحوال، يتبدّى أنّ إسرائيل وافقت على ولوج هذه المفاوضات، بفعل الاختناق الذي تعيشه بعد إجرامها الدولي باغتيال القيادي في"حماس"محمود المبحوح، وربما الأجدى عدم الاكتفاء بما تطلبه من البحث فيها فقط حول قضايا الحدود والأمن. أمَّا منظمة التحرير الفلسطينية، واستنادها إلى شرعية عربية في عودتها الى طاولة المفاوضات، فيبرز خيارها استراتيجياً في هذه المرحلة بالذات لإحراج إسرائيل على المستوى الدّولي أيضاً. بطبيعة الحال ثمّة من سيلعن المفاوضات، لكن الجوّ مؤات لقلب بعض موازين القوى انطلاقاً من تأسيس منظّمة"جاي- ستريت"الى أوروبا المنتفضة بعد استباحة سيادتها بتزوير الموساد لجوازات سفرها، إلى تراكم رأي عام دولي نخبوي وشعبي من أنّ الصلف الإسرائيلي العنصري بلغ أوجه، وآن أوان كشف النقاب عن الأكذوبة الابتزازية الصهيونية للمجتمع الدولي. أمّا وقد انطلقت المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والشرعية الفلسطينية، وسبقتها مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وسورية، فيبقى السؤال ما الذي ينتظره لبنان ليستهلّ إعداد ملفه التفاوضي؟ وما الذي يؤخّر إطلاق حملته الديبلوماسية في مواجهة إسرائيل لا سيّما وأنه استلم مقعده غير الدائم في مجلس الأمن منذ ما يناهز الشهرين؟ لا شكّ في أن الإجابة على هذين التساؤلين شائكة، إذ إنّ اللبنانيين غارقون في انقساماتهم الداخلية، وبعيدون عن منطق صياغة الاستراتيجية الهجوميّة التي يحتاجونها في أروقة صناعة القرار العالمي، وقد يكون في ذلك خدمة غير مباشرة، لمن هو مرتاح بشكل أو بآخر لمصادرة سياسة لبنان الخارجية، عبر تغييب فاعلية هذه السياسة ديبلوماسياً. من هنا تطرح إشكالية: هل الخوض في حوار حول الاستراتيجية الدفاعية شكلاً وآليات ومرجعية كفيل بمعالجة قضايا ثلاث لم تزل تشكل جوهر الصراع مع إسرائيل، عنيت أولاً قضية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم اللبناني من بلدة الغجر، وثانيها قضية الاستيلاء على المياه، والتي على ما يبدو تتمّ بأسلوب منهجي استفزازي، وثالثها وهي القضية الأخطر التي رسمت خريطة طريق لبنان الحديث والمعاصر على فوهة بركان دائمة، عنيت قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقّهم في العودة المرادف في المصطلح اللبناني المعتمد رفضاً للتوطين؟ ثمّة من أعدّ دراسات متقدمة في الجيو- استراتيجيا حول قضيتي الأرض والمياه، لكنْ ما يعنينا في هذه العجالة الإضاءة على أولوية بدء لبنان استعداداته لأيّ احتمالات مفاوضات آتية حول مسائل الحلّ النهائي، والتي يحتل فيها اللاجئون عصب الاشكالية الكيانية الديموغرافية الإسرائيلية. إذ إنّ إسرائيل، وأكثر ما يقضّ مضجعها فهو ديموغرافيا عرب ال1948، لا تلال الصواريخ المعرّضة للصدأ من ناحية، أو الاستعراضات التهويليّة الايديولوجيّة المنبرية من ناحية أخرى. من هذا المنطلق أمسى مُلحّاً إطلاق ورشة عمل لبنانية ? عربية ? أوروبية - أميركية مشتركة تضع سيناريوات واضحة لتجنيب لبنان أي شكل من أشكال التوطين. وقد تكون الخطوة الأهم في هذا السياق، وقف التركيز المجتزأ على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين، على رغم جوهريته وإلحاحه، بل بلورة رؤية قانونية ? سياسية ? ديبلوماسية تستند الى طرح مخاطر تصفية حق العودة، ليس فقط على التركيبة اللبنانية، بل حتى على مفهوم الشرعية الدولية وحدّها الأدنى من العدالة. وفي هذا الإطار يتبدّى أساسياً الشروع في تكوين ملف تفاوضي متكامل، يبدأ بالمعلومات ويمرّ بالانعكاسات الكارثيّة لأي محاولة لتجاوز حقّ العودة، ولا ينتهي بتحميل المجتمع الدولي مسؤوليّاته تجاه اللاجئين، بل يشمل تظهيراً لحقوق لبنان التعويضيّة مما عاناه من الوجود القسريّ لهؤلاء على أرضه. حتماً لا بدّ من التأكيد على أنّ قضية اللاجئين الفلسطينيين اليوم، وطروحات حلّها، هي إلى جانب كندا في عهدة الأوروبيين، وهؤلاء يفهمون خصوصيّة لبنان. إنّما ما يهمّهم إقناع لبنان بالممكن بحسبهم، لا بأفضل الممكن له، ولا ينفع في مواجهة ذلك تكرار الشعارات، بل المطلوب الانخراط في معركة الإرادات على قاعدة الحق الموثّق قانونياً، وبإدارة تفاوضيّة صُلبْة، تبدأ بتأكيد السيادة اللبنانية كاملة، ومن دون انتقاص، بإنهاء الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات وداخلها، وتمرّ عبر تبليغ المفاوض الفلسطيني رؤية لبنانيّة واضحة في حلّ قضية اللاجئين الموجودين على أرضه بمعزل عن أولئك في سورية، أو الأردن، أو العراق. مع الإشارة الى النموذجيّة الحكومية الأردنية الرائدة في التعاطي الثابت مع دعم حق العودة، وتنظيم الوجود الفلسطينيّ في الأردن عبر إجراءات يفسّرها مغرضون بالجائرة، فيما هي حقيقة، ولو ببطاقات خضراء وصفراء، تحصين للقضية الفلسطينية. ما سبق محاولة لا يبدو لي حتى الآن من آذان صاغية لها بفعل دويّ داخليّ متماد في التفتُّت، على رغم مساحات التوافق المتراكمة. ولا يمكن للبنان أن يتلقّى نتائج المفاوضات غير المباشرة، وتحديداً وحصراً بما يخصّ اللاجئين الفلسطينيين على أرضه، وآن أوان العمل فهل من يسمع؟ * كاتب لبناني نشر في العدد: 17144 ت.م: 2010-03-13 ص: 28 ط: الرياض