ورقة بيضاء بسطر واحد وتوقيع، وضعتُها على مكتب مدير المستشفى واستدرت. لم أنتظر موافقته، ولا انتبهت لتلميحات الأطباء الجالسين في مكتبه بأنني أفعل هذه الأيام أشياء بلا حسبان، ولا أجبتهم حين سألوني عن امتحان الأمس، ولم ألتفت حتى لأخبر المدير أن يتصرف حين زعق: ونوبتجية اليوم؟ لم يكن يخالجني في هذه اللحظة سوى شعور مبهم، وشوق قديم يجرفني بقوة إلى البعيد، فأهبط الدرجات الحجرية. أغتسل بماء النهر، وأصعد لأفترش قش الرز وأتمدد، تحت سماء واسعة، ليس أمامي سوى الماء وجزيرة الموز، ولا أصوات سوى لطيور وحفيف أشجار وخرير ماء، لأكتشف كم كنت كحمار الرحى الذي كُشف عن عينيه الغطاء، فراعه أنه ظل يخوض من دون أن يدري طوال هذا الوقت حول العيادة والمستشفى والبيت، في دوائر من رمال ناعمة ومتحركة. فتحتُ عيني كأنما بعد نوم كسول وطويل. تساءلت: هل تزوجت فعلاً هذه السيدة التي تنام بجواري؟ ومتى أنجبتُ هذه البنت وهذين الولدين وركبت هذه السيارة الجديدة التي أوشكت أن تحترق أول أمس بعد أن بعت القديمة؟ هل حدث كل هذا فعلاً، أم أن الأمر كله محض حلم سينتهي بمجرد أن أفتح عيني؟ في الطريق إلى المستشفى، وددت لو أجري وأصرخ بأن ما حدث لم يكن هو الذي أريده، غير أنني كنت كطاعن في السن، ثقيل الخطى، كلما رفعت قدمي غاصتا أكثر. كأنما أفيق من نوم طويل أو مخدر عام، وضعتُ الورقة أمام المدير وخرجتُ متحرراً من ثقلي كطائر يقلع عن الأرض ويحلق. أعاين الأشياء فتنطبع في ذاكرتي بيضاء ونظيفة كما رأيتها في المرة الأولى. ثمة موسيقى تتبعني ونغم غامض، وإيقاع أشبه بركض الأحصنة أمام الحناطير في الصباح. قبل أن أنحرف إلى شارع المديرية الذي يفصل مجلس المدينة عن محلج العطار، تعالى الإيقاع الذي بدا أنه لِدُفّ، وتجاوزني درويش مداح على سطح كارو، وانحرف إلى الشارع نفسه. لم أكن أتوقع في التفاتتي البسيطة للخلف قبل أن أنحرف يساراً لأعبر الطريق المقابل - كما أفعل حين أنظر في مرآة سيارتي - أن أرى مداحاً دأبتُ على رؤيته يذرع شوارع المدينة من جنوبها إلى شمالها لعشرين عاماً بالكارو بمثل هذا الوضوح. ولم أكن قد تبيّنت - إلا بعدما تلاشت ملامحه في شارع المديرية - أنه غيَّر اتجاهه اليوم. كان يفرد ذراعيه ويتطوح في وَجْدٍ بجلبابه البني على قميص أبيض ولاسة خضراء وشال، من دون أن يتجه بنظره إلى المارة. على سلم العيادة المتسع راعني وشيش الصمت، فتوقفت عن الصعود. لا أنات لمرضى ولا صخب مرافقين يطالعني على بسطات السلم أو أمام الأبواب، ولا دواب مربوطة بحديد شبابيك الدور الأرضي. لم أنتبه حتى لنصبة نجاح بائعة الطعمية التي وقفت فارغة اليوم بجوار البوابة. كأنها غير موجودة. صباح مختلف. فكرت أن أنزل وأتأكد من واجهة العمارة. لكنني شغفاً بالخفة التي اعترتني، واصلت الصعود، مستعيداً لحن الدرويش الذي يغني لنفسه، من دون أن يرد بذهني ما إذا كانت الورقة البيضاء إلا من سطر واحد على مكتب المدير إجازة أو استقالة. عند باب العيادة الذي كان مغلقاً لم أجد المفاتيح. للمرة الأولى أرى الباب مغلقاً. قبل أن أقرر النزول، دفعته فانفتح. هل نسيته نازك مفتوحاً من أمس؟ ما لزوم المفاتيح إذاً؟ ابتسمت في نفسي وبدوت خفيفاً كمن حط عن كتفيه حملاً كبيراً حين تصورت أن تكون المفاتيح بهذا الثقل. أسندت ظهري على الكرسي، وفردت ذراعيَّ على امتدادهما، وتنفست بعمق ومتعة كما لم أتنفس من قبل. كنت أعلم أنني جئت إلى هنا لأتزود بشيء قبل أن أواصل رحلتي القديمة إلى انحناءة النهر، أمام جزيرة فهمي الممتلئة بالموز، أو جزيرة علما الممتلئة بأشجار الأرو والفاكهة. كصورة وضعت تواً في إطار، أطلت من مستطيل الباب امرأة. لم أشعر بخطواتها على السلم، ولا لهاثها. بملاءة سمراء ووجه أبيض وعينين محدقتين. كأنما تنتظر منذ وقت بعيد. لملمت ذراعيَّ المفرودتين تلقائياً، واعتدلتُ خلف مكتبي، وتوارت مشاعر الخفة وقلت في حسم: - لن أعمل اليوم. لم تكن قد تكلمت بعد، فباغتها الرد. استندتْ في حيرة على الباب، وبدا الفستان الجينز والبلوزة البيضاء تحت الملاءة متسعين عليها، ونضحت من وجهها في آن ملامح الطفولة والنضج. قلتُ مخففاً من حيرتها إنني أعتذر فأنا هنا في هذه اللحظة فقط لآخذ شيئاً ثم أخرج. اختفت استدارة بطنها، وحلت محل ملامح الطفولة المرتبكة ملامح الألم، وسقطت دمعتان. أربكتني الدموع التي ترقرقت في صمت، فخالجني شعور بالذنب، ولم أميز إن كانت الدموع لتقلص البطن، أم لفتور استقبالي لها، وكان من غير المناسب - وأنا أسعى نحو رحلة مبهمة - أن أتحمل هذا الوزر، وفضلت أن أفحصها، ربما وجدت الرأس موشكة على الخروج، ولن يكون عليَّ حينئذ سوى أن أجذب المولود، وأربط سرته، وألبسه ملابسه، وأساعدها في النزول عن ترابيزة الولادة إلى السرير، لتغمر الراحة الوجه بعد إجهاد الولادة، ويطيع الشعر المبلول بالعرق تمشيط الأصابع التلقائي وينسدل للخلف فيما يحل الامتنان محل الدموع. نزعتُ قفاز الفحص ممتعضاً وعدت إلى مكتبي حين وجدت عنق الرحم مغلقاً ورأس الجنين الآتى عالية. كانت في أولى مراحل الولادة، وسرعان ما تيقنتُ أنها دموع الخوف وفتور الاستقبال، فقد مسحَتْها واستراحت ملامحها تماماً حتى قبل أن تعرف نتيجة الفحص، وبدت مثل طفل كف للتوِّ عن البكاء وسيقبل عما قليل على النوم. استحالت العيادة إلى زنزانة تضمنا، أنا عند باب الحمام وهي جالسة هناك. صار مجرد وجودها في العيادة ثقيلاً، يحول دون استجماعي لهذه الحالة الغامضة التي أحياها، أو القبض على ملامحها تحديداً. برفق حاولت إقناعها بالخروج وأن تجيء حين يزيد الطلق، فتساءلَتْ في براءة عن الألم الذي تشعر به. قلت إنه طلق، لكن الوقت قد يطول، ثم إنها جاءت مبكرة، فتساءلتْ إن كانت قد جاءت مبكرة جداً، قلت: لا... قليلاً. فقالت في استسلام: - طيب.. هل أذهب؟ لم أرد. أردت أن أحاصرها فحاصرتني. لو قلت:"نعم"، سيعاودني الشعور بالذنب، وإن قلت:"لا"فلن يكون بوسعي سوى أن أدعها تستريح في حجرة الولادة. قلت:"لا"، فاستحالت العيادة إلى زنزانة حقيقية. نشر في العدد: 17126 ت.م: 23-02-2010 ص: 26 ط: الرياض