بعد الحقب الثلاث التي تلت سياسات الزعيم الصيني دنغ شاو ينغ، والتي حققت نقلة نوعية ضخمة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة الخارجية الصينية، يتنبأ بعض الدارسين أن الصين ستكون أكبر اقتصاد في العالم، إن لم يكن في عام 2020، فبالتأكيد بعد 75 عاماً. هذا التوقع أطلق جدلاً واسعاً بين المؤرخين والباحثين حول طبيعة ما يجري في الصين وحول ما يتبناه نظامها من نظريات في إدارة الاقتصاد والمجتمع والسياسة، وعن أهم الدعائم التي تقوم عليها التجربة الصينية، وهل تمثل الصين نموذجاً للدول النامية من ناحية، وتهديداً للولايات المتحدة والغرب من ناحية ثانية، وما هي أصلح الوسائل للتعامل معها: هل هو أسلوب الاحتواء كما جرى مع الاتحاد السوفياتي السابق، أم سياسة التعاون والارتباط على أمل أن يؤدي هذا إلى جذب الصين إلى التعاون والتعايش وأن تكون جزءاً من نظام عالمي دولي متعاون. هذه هي القضايا والأسئلة التي يناقشها كتاب مهم وضعه خبير في الشؤون الصينية ويشرف على برنامج حول القانون والعدالة وحكم القانون في الصين هو البروفسور راندال بيرنبوم وصدر كتابه بعنوان"تحديث الصين: تهديد للغرب أم نموذج للآخرين؟". يبدأ الكتاب من مقدمة مؤداها أن صورتين متناقضتين تسودان عن الصين اليوم في شكل حاد تمثل الصورة الأولى الصين ذات ناطحات السحاب وأحدث الأزياء والشوارع المملوءة بأحدث ماركات السيارات، هذه هي القوة الأعظم الصاعدة التي يتوقع أن تمتلك أوسع اقتصاد عالمي مع منتصف القرن إن لم يكن في 2020. فقد استطاعت الصين هذه خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية أن تدفع مئات الملايين من شعبها خارج نطاق الفقر وأن تبني نظاماً قضائياً فاعلاً تقريباً من الصفر، وبدت كلاعب قوي على المسرح الدولي واستضافت الاولمبياد، وأظهرت كل من الصين الحديثة الصين المعاصرة والتقليدية سياسة خارجية قائمة على التعايش السلمي واللاءات الأربع: لا للهيمنة، لا لسياسات القوة، لا للتحالفات العسكرية، لا لسباق التسلح. هذه الصين هي أكثر شعبية حول العالم من الولاياتالمتحدة ومحبوبة تقريباً مثل فرنسا وألمانيا واليابان. من ناحية أخرى، هناك الوجه المظلم للصين كدولة سلطوية تقهر مواطنيها وتعتقل المنشقين السياسيين وتحجب"الانترنت"، هذه هي الصين القومية التي تبني توجهاً دفاعياً ضد الإهانات التي تعتبرها موجهة لكرامة الشعب الصيني، مثل هذه الصين تعتبر تهديداً للاستقرار الجيوبولتيكي، وبنظام مالي يقع تحت عبء القروض والمشاريع غير الكفء المملوكة للدولة، وبعمالة زائدة متضخمة ومؤسسات حكومية ضعيفة وفاسدة، فإنه من الصعب أن نعتبر أن هذه الصين هي معجزة اقتصادية، بل هي بلد نامٍ فقير نسبياً حيث يعيش أكثر من 40 في المئة من السكان بأقل من دولارين يومياً ويسحق الفلاحين تحت العبء الثقيل للضرائب غير القانونية، والمتقاعدين غير القادرين على جمع معاشاتهم من الموظفين السيئي الخلق، ويفتقر الملايين إلى الرعاية الصحية والرفاهية الاجتماعية في حدودها الدنيا. هاتان الصورتان المتصارعتان توازيان صورة وجهتي نظر متساويتين في الأدب الأكاديمي حول القانون والتنمية والعولمة والتحديث، وترى الصورة الإيجابية الصين كمشروع للدول النامية في عصر العولمة بمعدلاتها العالية للنمو. أما وجهة النظر النقدية فترى الصين كقوة تتحدى الافتراضات المركزية للقيم الغربية والتي تجمع الأسواق القائمة على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بالديموقراطية الدستورية وحكم القانون والحكم الرشيد والتفسير الليبرالي لحقوق الإنسان. والسؤال الآن هو أي صين حقاً تمثل مشكلة، وإذا كان الأمر كذلك فأي نوع من المشكلة. وبالنسبة الى البعض فإن المشكلة أن الصين تمتعت بنمو اقتصادي فائق في الحقب الماضية، وواضح أن هذا النمو تحقق من دون"حكم القانون"، وعلى هذا فإن المشكلة سياسية، فقد قاومت الصين الموجة الثالثة للديموقراطية وبقيت رسمياً دولة اشتراكية وإن كانت ذات طراز فريد للدول الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين التي دعمت اقتصاد السوق وحكم القانون، وبالنسبة لآخرين فإن المشكلة الرئيسية هي حقوق الإنسان وهؤلاء يرون أنه وفقاً لذلك، فإن الولاياتالمتحدة وحلفاءها يجب أن يستعدوا الآن للصراع المقبل مع الصين. وامتداداً لهذا التفكير فإن الصين هي نظام خارج عن القانون يقوض الاستقرار الجيوبيولتيكي عبر مبيعات الصواريخ البالستية لدول"مارقة"وتساهم في انتشار أسلحة الدمار الشامل وتهدد هيمنة الولاياتالمتحدة وتفوقها العسكري. ووجهة النظر هذه تفترض أن النظم السلطوية هي تهديد أعظم لسلام العالم من الديموقراطيات، كما أن وجهة النظر هذه تعتمد على الملاحظة التاريخية أن صعود قوة جديدة نتج منه عادة صراع وعدم استقرار جيوبيولتيكي، وبناء على ذلك فإن الولاياتالمتحدة وحلفاءها يجب أن يعدوا أنفسهم لصراع مقبل مع الصين مع الجدال حول ما إذا كان أفضل طريق لهذا هو محاولة احتواء الصين أو الارتباط بها على أمل أن الصين الأكثر ازدهاراً والتي تتبادل الاعتماد ستلحق بالديموقراطيات الليبرالية المحبة للسلام. على نقيض من هذه النظرة النقدية للصين، فإن وجهة النظر المعارضة تنظر إلى الصين كمشروع للدول النامية وأنها في هذا اعتمدت على ست دعائم، الأول: أن حكومتها تبنت أسلوباً براغماتياً للإصلاح وفي الوقت الذي تبنت إصلاحات السوق فقد قاومت محاولات المؤسسات المالية الدولية والخبراء الأجانب أن تأخذ سياسة"العلاج بالصدمات"وتتبع بدلاً منها أسلوباً أكثر تدريجية للإصلاح. وبدلاً من أن تتبع اتباعاً أعمى نصيحة صندوق النقد والبنك الدوليين، فإن حكوماتها راعت أن تكيف المبادئ الاقتصادية الرئيسية لظروف الصين الحالية. والدعامة الثانية أنه على عكس الوصفات النيوليبرالية فإن الدولة تدخلت بنشاط في الاقتصاد الصيني ولعبت دوراً رئيسياً في وضع السياسة الاقتصادية وتأسيس مؤسسات حكومية فاعلة، وتنظيم الاستثمار الأجنبي والتخفيف من الآثار العكسية للعولمة على فئاتها المحلية. بهذا يتواءم مع وجهة النظر الطويلة الأمد أن الدول النامية تحتاج إلى تدخل دولة قوية. أما الدعامة الثالثة فهي أن الصين اتبعت الإصلاحات الاقتصادية كما فعلت دول أخرى في شرق آسيا. والمدافعون عن مثل هذا الأسلوب يؤيدون موقفهم بالإشارة إلى المشكلات في روسيا والفيليبين وإن روسيا ومجموعة أخرى من الدول الفاشلة التي وضعت الإصلاحات السياسية في مقدم الإصلاحات الاقتصادية والديموقراطية على مستويات هابطة من الثروة قبل أن يتأسس حكم القانون والمؤسسات الحكومية الفاعلة، وتقدم الدراسات المستندة الى التجربة الواسعة دعماً كبيراً لوجهة النظر القائلة إن إدخال الديموقراطية على مستويات هابطة من الثروة ليس من المحتمل أن يؤدي إلى النمو. والدعامة الرابعة تتمثل في أنه في الوقت الذي التزمت الصين بأهمية وشرعية حقوق الإنسان فإنها أيضاً تحدت الإجماع العالمي المزعوم حول قضايا حقوق الإنسان. أما الدعامة الخامسة فتتمثل في أن السلطويين الجدد والكونفشيين الجدد والنقاد الآخرين لليبرالية يأملون أن تقدم الصين يوماً ما بديلاً قابلاً للحياة الديموقراطية الرسمية والليبرالية التي فشلت في حل القضايا الضاغطة لعدم المساواة الاجتماعية والرفاهية الإنسانية لقسم كبير من الشعب في الدول الغنية والفقيرة معاً. أما الدعامة السادسة لصعود الصين، والتي تجتذب الدول النامية فهي سياستها الخارجية الصاعدة، وفي جوهر هذه السياسة نجد الارتباط بالسيادة وتحقيق الذات والاحترام المتبادل الذي يسمح للبلدان أن تطور وفقاً لشروطها وبطرقها الخاصة بتحررها من الأولويات التي تؤسس مجموعة السبع والشروط المفروضة من المنظمات المالية الدولية، باعتبار أن الإصلاحات تتطلب أن تقوم على أساس أن"الدولة تمتلك والدولة تقود"، فإن البلدان النامية من آسيا وأفريقيا دعمت دعماً حماسياً هذه الاهتمامات المركزية في أسلوب بكين البرغماتي. وهناك الآن دلالة كافية على أن بلداناً أخرى مثل فيتنام وإيران تستلهم تلك التجربة. وهناك بلدان من الشرق الأوسط دعت خبراء صينيين في القانون والاقتصاد والسياسة لكي يتحدثوا عن تلك التجربة. ومثل هذه البلدان التي هي بالكاد ديموقراطيات ليبرالية تفضل أسلوب الصين في الإصلاحات التي تقودها الدولة مع إصلاحات سياسية محدودة. وعلى هذا فإن بلداناً نامية في أميركا اللاتينية وأفريقيا أصغت إلى أسلوب الصين البراغماتي في الإصلاح، كذلك حاولت الصين نفسها إقناع البلدان الأخرى لكي تتبعها، فالرسميون الحكوميون يحاضرون في شكل منتظم شركاءهم التجاريين في الدول النامية حول الحاجة إلى فتح أسواقهم وإقامة حكم القانون ومحاربة الفساد والترويج للحكم الرشيد، وترحب بكين بالوفود من بلدان أخرى عبر العالم ليروا بأنفسهم مزايا الأسلوب الصيني في الإصلاح. ويتساءل الكتاب عن أي صين إذاً هي التي يمكن أن نأخذها، هل الصين التي تمثل فشلاً وبقايا سلطوية من عهد آخر أم هي قصة نجاح أم هي مزيج من كل منهما؟ هل من المبكر الحكم عليها؟ هل الصين انحراف خطير من المحتمل أن تقود الدول النامية المناضلة إلى الوراء وظلام الاستبداد؟ أم هي نموذج ناصع يظهر لهم الطريق للرخاء والحياة الطيبة؟ في الوقت الذي تتحدث الصين، فهل تتبنى المؤسسات والقيم الموجودة في الديموقراطيات الليبرالية الأوروبية والأميركية أو أن الصين ستطور صيغها من المؤسسات الحديثة وأيديولجيتها المتميزة الجاذبة؟ هل ستكون الصين اللاليبرالية القوية اقتصادياً وعسكرياً تهديداً لأوروبا وأميركا وما تتمتع به من نفوذ إقليمي أم أنها ستستطيع أن تتعايش سلمياً وتصبح جزءاً متكاملاً مع النظام الدولي؟ * المدير التنفيذي للمجلس المصري للشؤون الخارجية نشر في العدد: 17118 ت.م: 2010-02-15 ص: 26 ط: الرياض