على رغم تواتر الخطابات الصادرة من تنظيم"القاعدة"، سواء في صورة أشرطة فيديو أو تسجيلات صوتية، والتي كان آخرها التسجيل الصوتي لقائد التنظيم أسامة بن لادن الذي تم بثه في 27 تشرين الأول أكتوبر الماضي، ووجهه إلى الشعب الفرنسي، شارحاً له أسباب"تهديد أمنهم وأسر أبنائهم"، وعلى رغم ما تقوم به هذه الشرائط من وظيفة رمزية مهمة للتأكيد على حضور القاعدة وبقاء قياداتها على قيد الحياة، فضلاً عما تمثل من سعي حثيث للتواصل مع التفاعلات الدولية والإقليمية، والداخلية أحياناً، إلا أن تحليلاً دقيقاً لمضمون خطاب التنظيم خلال السنوات الأخيرة، قد يشير إلى أفوله، وتهافته، وافتقاده الكثير من الوهج والتماسك. ثلاثة ملاحظات أساسية يمكن استنتاجها بخصوص هذا الخطاب. الملاحظة الأولى هي تراجع الارتباط الواضح، مع الوقت، بين ما تصفه القاعدة ب"الجهاد"ضد ما تصفه أيضاً ب"العدو الأول"للعالم الإسلامي، وهم"اليهود والصليبيون"، من ناحية، والقضية المركزية التي أثير في شأنها مفهوم"الجهاد"منذ منتصف القرن الماضي، من ناحية أخرى، وهي القضية الفلسطينية. فعلى رغم أهمية قضايا التحرر الوطني في العالم الإسلامي، سواء في جنوب شرقي آسيا أو في أوروبا الشرقية، أو في منطقة القوقاز، إلا أن أياً من هذه القضايا لم تحتل الأهمية التي احتلتها القضية الفلسطينية في الإدراك العام للشعوب العربية والإسلامية، كما لم يكن أي منها المعول الأساسي الذي بُني عليه مفهوم"الجهاد الإسلامي"خلال العقود الستة الماضية. وعندما ظهر تنظيم القاعدة الأم في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي لم تكن أي من قضايا التحرر الوطني الإسلامي تحتل موقع الصدارة والمركزية التي احتلتها القضية الفلسطينية، كما لم يرتبط اسم"القاعدة"بأي من هذه القضايا بشكل واضح، على نحو ما ارتبط بالقضية الفلسطينية ذاتها. فقد تبنت"القاعدة"هدفاً عاماً تمثل في"رفع كلمة الله والانتصار لدينه"، وهدفاً آخر أكثر تحديداً تمثل في تحرير المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضة اليهود والصليبيين، وطرد جيوشهم من كل أرض الإسلام لاحظ أن الجيوش تنصرف هنا أيضاً على جيوش اليهود والصليبيين، كما يمكن صرفها بالأساس إلى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والقواعد الأميركية في دول الخليج العربية، وذلك وفقاً لما جاء في فتوى"الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، والتي صدرت عن بن لادن والظواهري وعدد من الجهاديين الآخرين، في شباط فبراير 1998، والتي اعتبرت"أن حكم قتل الأميركيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه". لكن هذه الأهمية النسبية التي أولاها التنظيم للقضية الفلسطينية، والجهاد ضد"اليهود والصليبيين"التعبير الأعم عن إسرائيل والولايات المتحدة، تراجعت مع الوقت نتيجة تحولات عدة في طبيعة وأجندة عمل التنظيم، فما حدث بعد أيلول سبتمبر 2001 هو استدعاء وتوظيف عدد من الجهاديين الإسلاميين في أقاليم مختلفة لأيديولوجيا وتكتيكات التنظيم للتعاطي مع مستويات مختلفة من"الجهاد"ومفاهيم مختلفة"للعدو". فباستثناء حالات محدودة مثل أفغانستان والعراق، لا يوجد حضور واضح"للعدو"الأميركي أو الغربي، حيث تقدم حالات"القاعدة"في جنوب شرقي آسيا، واليمن، والصومال نماذج واضحة على تحول هذا التنظيم من"الجهاد"ضد"العدو"الخارجي إلى"العدو"الداخلي ممثلاً في المجتمع و"الدولة"الوطنية. ولا يدحض هذا الاستنتاج استهداف بعض الأهداف الغربية هنا أو هناك، إذ يظل الاتجاه العام للصراع أو الجهاد موجهاً بالأساس ضد المجتمعات الإسلامية، والنظم السياسية، والدول الوطنية. وحتى في الحالات التي تتسم بحضور واضح"للعدو"الغربي الأميركي، فإن ذلك لا يحول دون تطوير"عدو"داخلي. وعلى رغم المساحة التي حرص قادة التنظيم الأم على إفرادها للقضية الفلسطينية من وقت لآخر، فإن هذا الاهتمام لم يتعد"الخطاب". كما فقد هذا الخطاب نفسه مضمونه، بفعل عوامل عدة، أولها، غياب علاقة واضحة بين ممارسات وعمليات"القاعدة"والقضية الفلسطينية، ما أضعف صدقية هذا الخطاب. وثانيها غياب علاقة تنظيمية واضحة بين"القاعدة"وقوى المقاومة الفلسطينية الأساسية"ففي الوقت الذي التحقت فيه تنظيمات جهادية في أقاليم عدة بالقاعدة، حافظت التنظيمات الفلسطينية الأساسية على مساحة واضحة بينها وبين ذلك التنظيم على رغم انفتاح بعضها على قوى خارجية إقليمية أخرى. الملاحظة الثانية هي تشتت خطاب القاعدة، وتوزعه على قائمة كبيرة من القضايا. وعلى رغم أن هذا جاء ربما بدافع السعي لاستغلال أكبر عدد ممكن من القضايا والتحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية لإثبات تواصلها مع الجدل العام الدائر داخل هذه المجتمعات، ودمج قضاياها ضمن أجندة/ أجندات القاعدة، إلا أن هذا التشتت كان له تأثيراته السلبية. فمن ناحية، أدى هذا المسعى إلى تصدير صورة ملتبسة حول أولويات"الجهاد"لدى القاعدة، فهل مازالت هي العدو البعيد، ممثلاً في"اليهود والصليبيين"، أم هي أعداء قريبون ممثلون في المجتمعات والنظم الحاكمة والدولة. إن قراءة سريعة لخطابات بن لادن والظواهري تشير إلى تضمنها قائمة واسعة من الأعداء، بدءاً من الدول الغربية وإسرائيل، وانتهاء بالنخب الحاكمة في أفغانستان، وباكستان، ومصر، وفلسطين، والسعودية، بل نخب معارضة داخل هذه الدول على نحو ما عكسه خطاب الظواهري بمناسبة الذكرى التاسعة لأحداث أيلول سبتمبر والذي انتقد فيه البرادعي في مصر...الخ. الملاحظة الثالثة هي تورط القاعدة في قضايا"فنية"دخيلة على عملها. وكان النموذج الأبرز في هذا المجال خطاب بن لادن الذي بثته مؤسسة السحاب في الأول من تشرين الأول الماضي، والمعنون"وقفات مع أسلوب العمل الإغاثي"، والذي دعا فيه إلى مواجهة الكوارث الطبيعية الناتجة من ظاهرة التغيرات المناخية. وعلى رغم أن هذا الخطاب، أُريد به استغلال كارثة الفيضانات في باكستان، إلا أنه بدا وكأنه دخيل واستثناء عن خطابات القاعدة، سواء من حيث المضمون أو المفردات المستخدمة. فقد لوحظ استخدام بن لادن لعدد كبير من المفاهيم العلمية من قبيل"التغيرات المناخية"،"الجفاف"،"الفيضانات"،"فقد الأطفال السوائل من أجسامهم"،"المياه الصالحة للشرب"، ارتفاع"نسبة الوفيات بين الأطفال"،"الإنذار المبكر"،"ضعف القدرات الذهنية"،"سوء التغذية"،"المناطق المنكوبة والفقيرة"،"الأمن الغذائي"،"الاستثمارات الزراعية"،"اتفاقات تضمن حقوق المستثمر"،"استنزاف المياه الجوفية غير المتجددة"،"شبكة مياه الشرب". إن إقحام القاعدة لهذا النوع من القضايا في أجندتها، والتوسع في استخدام هذه المفاهيم العلمية الفنية يؤدي - على العكس مما قد تتصوره القاعدة - إلى تكريس حالة الانفصام، ليس بين خطابها والواقع، ولكن بين هذا الخطاب وطبيعة التنظيم باعتباره تنظيماً جهادياً عالمياً. وعلى الأرجح أن بن لادن قام بالنقل المباشر عن تقارير علمية، وهو ما انعكس في قوله"بحسب الدراسات"،"التقارير تتحدث..."، واستخدامه اليورو لتقدير موازنات الجيوش، وحفر الترع. والأكثر أهمية أن هذا الخطاب أوقع القاعدة في بعض التناقضات، فمن ناحية بدا نخبوياً، سواء من حيث المفردات المستخدمة، أو من حيث الجهة المستهدفة، فقد تضمن الكثير من المقترحات والمطالب التي لا يمكن تنفيذها إلا بواسطة الدولة والنخب الحاكمة في المنطقة، وهو ما ينطوي على تناقض في خطاب القاعدة تجاه هذه النخب. ومن ناحية ثانية، يلاحظ أن الخطاب تبنى خطاباً إنسانياً عاماً يعلي من مفاهيم الأمن الإنساني، والتركيز على التهديدات غير التقليدية، وهو ما انعكس في انتقاده الإنفاق على الجيوش وإهمال الإنفاق على مواجهة الكوارث الطبيعية، مشيراً إلى أن ضحايا التغيرات المناخية أكبر بكثير من ضحايا الحروب!! وهو ما ينطوي على تجاهل التنظيم لكونه هو، وتنظيماته الفرعية، جزءاً من"حروب"عدة في الشرق الأوسط، وعلى المستوى العالمي، على نحو لا يعفيه هو الآخر من المسؤولية عن ضحايا هذه الحروب، والعمليات الإرهابية التي نفذها داخل المجتمعات الإسلامية. سقوط القاعدة في هذه المنطقة الشائكة يقدم نموذجاً لتحولات مهمة في بنائها الفكري، في اتجاه يسهل معه محاججتها والاشتباك معها على أرضية سياسية ودينية أيضاً، وهو ما يفقد أيديولوجيتها الكثير من الوهج والتماسك. إن تهافت خطاب القاعدة يمثل مصدراً مهماً لتراجع جاذبية أيديولوجيتها لدى شعوب العالم الإسلامي، في ضوء تزامن هذا"التهافت"مع مصادر أخرى لضعف التنظيم على مستويي المركز أو الفروع، من بينها توالي سقوط قيادات من داخل الصفين الثاني والثالث، والأول في بعض الحالات، في أفغانستانوباكستان والعراق واليمن والصومال، وجنوب شرقي آسيا، على نحو يشير إلى انكشاف التنظيم أمنياً. أضف إلى ذلك استقرار ظاهرة المراجعات الفكرية داخل التنظيمات الجهادية على نحو قد يؤدي إلى محاصرة القاعدة وعزلها فكرياً عن الحركات الجهادية في الشرق الأوسط ككل، ومشروع المصالحة المحتملة مع طالبان أفغانستان والذي قد يؤدي هو الآخر إلى عزل القاعدة في منطقة تركزها الأساسية. * كاتب مصري