خمس سنوات مرت على زيارة يحيى الأولى لمخيم"برج البراجنة"للاجئين الفلسطينيين، الذي يقع وسط الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. تكررت بعدها الزيارات إلى منزل صديق الدراسة، الذي كان ينتظره في كل مرة عند أحد مداخل المخيم، ويمشيا خطوات معدودة قبل الوصول إلى منزل ربيع من دون أي عناء. في زيارته الأخيرة، اضطر يحيى للمشي والسؤال عن عنوان بيت صديقه، على انها الوسيلة الوحيدة للاستدلال عليه، إذ ان كلاهما لا يملك هاتفاً خلوياً، بسبب البطالة التي لحقت بهما بعد تخرجهما من معهد"سبلين". بدأ يحيى مشواره سالكاً الطريق الوحيد الذي يعرفه. دلف إليه عبر المدخل الذي يقطعه مع ربيع، ومن طريق إلى طريق ومن زاروب الى آخر، محاولاً تذكر ملامح الطريق. لا وجود للوحات أو أسماء طرق، فالحيطان مملوءة بصور الشهداء والكتابات الثورية وبعض عنواين المحلات والدعايات. أما الممرات، فكلها مفتوحة على بعضها البعض وتشكل متنفساً لنوافذ البيوت المتموضعة عشوائياً على حدود الزواريب غير المستقيمة. يصف يحيى حاله تلك قائلاً:"كنت أدور في المكان نفسه من دون أن أعلم. وبعد فترة من المشي المتواصل، كنت أكتشف في كل مرة أني عبرت الطريق نفسه من دون قصد. لم أستطع وقتذاك أن أميز ما إذا كنت في منتصف المخيم أم على أطرافه إلا حينما أجد نفسي خارجه. فأعود وأدخل من المكان نفسه لأنه الشيء الوحيد الذي أتذكره". كان يحيى مصرّاً على رؤية صديقه من أجل إخباره عن فكرة السفر للعمل في محاولة للخروج من دوامة البطالة والخمول في المنزل. وفي كل مرة يسأل يحيى عن عنوان البيت يكتشف أنه ما زال بعيداً من حارته، إذ أن أحداً لم يعرف ربيع، والمتعارف عليه أن أبناء الحي الواحد في المخيمات يعرفون بعضهم البعض جيداً. وعندما بلغ اليأس حده عاد يحيى الى بيته في شمال لبنان بعد مرور أكثر من ساعة ونصف الساعة من المشي بحثاً عن صديق المعهد من دون أن يلتقيه. كل هذا الدوران كان داخل نصف كيلومتر مربع، هي نصف مساحة مخيم البرج الذي يسكنه نحو 16 ألف لاجئ في أحياء مكتظة وضيقة لا تكاد تدخل الى بعضها الشمس. المشكلة نفسها تتكرر، وينتقل المشهد من شاب إلى آخر وينسحب على المخيمات الفلسطينية في شكل عام، هذه المخيمات التي تفتقد إلى معالم تميز شوارعها بعضها عن بعض. والساحات التي تستخدم من أجل التعريف غالباً ما تكون عبارة عن فسحة صغيرة تفصل بين عدد من الخطوط المتوازية والمتداخلة، أو مفترق طرق أكبر من غيره في وسطه مساحة 20 متراً مربعاً ما يعادل مساحة غرفة عادية، لكن وجودها في طرق ضيقة يجعل المار فيها يعتقد أنها ساحة واسعة نسبة إلى مساحة المكان، وغالباً ما تعج بالأطفال الذين يجدون فيها الفسحة الوحيدة للعب الكرة، في مخيمات لا تتسع شوارعها لمرور شخصين في وقتٍ واحد. رحلات في زواريب المخيمات، يتخللها"دوشات"، من مياه تتدفق من المباني المتخلخلة والمتلاصقة، يستخدمها بعض الاطفال لترطيب اجسامهم خلال اللعب او للغسيل عند الإنتهاء، من دون أن يتم التأكد من نظافتها أو معرفة مصدرها. هو المشهد نفسه ينسحب من مخيم إلى آخر، المخيمات التي تعج ببيوت متشابهة وطرقات عشوائية، ولّدت متاهات، يصغر حجمها في مخيم مار الياس ويكبر في عين الحلوة بحسب المساحة وعدد السكان.