على رغم أن النظام السياسي الذي بُني في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية أخذ بالتعددية الحزبية، إلا أن الواقع السياسي تطور منذ منتصف الخمسينات، وتحديداً منذ تأسيس الحزب الليبرالي الديموقراطي في تشرين الثاني نوفمبر 1955، في اتجاه نظام الحزب الواحد المسيطر، من دون أن ينال ذلك من الطابع الديموقراطي للنظام، فقد ارتبط تطور هذا النظام بنظام انتخابي تنافسي وبانتخابات تنافسية دورية. وجاء تطور هذا النظام نتيجة عدد من العوامل تعلق بعضها بطبيعة الثقافة السياسية اليابانية - والآسيوية عموماً - والتي تعطي أهمية كبيرة لقيمة التدرج والتحول البطيء نسبياً - وتعلق بعضها الآخر بطبيعة النظام الانتخابي الذي انطوى على تحيز الى مصلحة الأحزاب الكبيرة، إلا أن العامل الأهم تمثل في نجاح الحزب الليبرالي في تطوير علاقة تحالف قوية مع البيروقراطية والشركات الكبيرة داخل قطاع الأعمال. إذ لا يمكن تفسير سيطرة الحزب الليبرالي الديموقراطي على السلطة منذ تأسيسه وحتى إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في آب أغسطس 2009 من دون انقطاع، باستثناء فترة محدودة جداً 1993- 1996، والحيلولة دون تطور معارضة سياسية حزبية قوية داخل النظام السياسي، من دون فهم هذا التحالف القوي بين القوى الثلاث: الحزب الليبرالي الديموقراطي والبيروقراطية والشركات الكبيرة ونخبة رجال الأعمال. واستطاعت أقطاب هذا المثلث إدارة العمليات والتفاعلات السياسية داخل النظام، بما في ذلك تحديد الأجندة والخيارات السياسية الداخلية، وتوزيع الموارد السياسية والاقتصادية، وتحديد توجهات السياسة الخارجية اليابانية وأولوياتها... الخ، في شكل توافقي في ما بينها. فقد مثلت البيروقراطية المصدر الرئيس للتجنيد داخل النخبة السياسية، إذ استطاع كبار مسؤولي الجهاز البيروقراطي، خصوصاً أولئك الذين تلقوا تعليمهم وتدريبهم في الجامعات المهمة، أن يشغلوا المواقع السياسية والاجتماعية الأبرز بالمقارنة مع قيادات الحزب الليبرالي الديموقراطي وكوادره، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء ذاته، على نحو جعل البعض يصف علاقة الحزب بالبيروقراطية بالتبعية. وعلى سبيل المثال، بلغت المدة الإجمالية التي شغلها رؤساء الوزراء المجندون من داخل البيروقراطية اليابانية خلال الفترة 1955- 1980 عشرين سنة، في مقابل خمس سنوات فقط لكوادر الحزب الليبرالي الديموقراطي. هذا إضافة إلى الدور المهم الذي أدته البيروقراطية في تطبيق السياسات الداخلية والخارجية. كما نشأت علاقات تحالف قوية بين كبار مسؤولي الجهاز البيروقراطي وجماعات المصلحة التي توافقت مصالحها مع أهداف البيروقراطية ومصالحها. ولم يستطع الحزب الليبرالي الديموقراطي تحديد الأجندة والخيارات السياسية الوطنية بمعزل عن التنسيق المباشر مع البيروقراطية وكبار رجال الأعمال. وعلى رغم أن الدور السياسي القوي للبيروقراطية اليابانية يعود إلى ما قبل نظام 1947، وتحديداً إلى بداية تجربة التصنيع اليابانية، التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع دخول اليابان مرحلة التنافس الاستعماري مع الدول الأوروبية تحت شعار"دولة غنية وجيش قوي"، حيث جرى الاعتماد على البيروقراطية كفاعل رئيس في إنجاز عملية التصنيع وإدارتها، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على هذا الدور بعد الحرب العالمية الثانية. فقد أدى تفكيك المؤسسة العسكرية، ورغبة سلطة الاحتلال في تأسيس نظام سياسي"سلمي"مستقر، إلى الاعتماد المكثف على البيروقراطية المدنية لملء الفراغ الناجم عن تهميش المؤسسة العسكرية. كما ساهم تحول السياسة الأميركية تجاه اليابان خلال فترة الحرب الباردة، من التركيز على الشق السياسي للإصلاح إلى إعطاء الأولوية ل"إعادة البناء الاقتصادي"، ساهم في مزيد من التركيز على البيروقراطية كشريك محلي، بالتحالف مع الحزب الليبرالي الديموقراطي وقطاع الأعمال، في إدارة تلك العملية. هكذا، وفي الوقت الذي ارتبطت عملية إعادة بناء نظام ما بعد الحرب بتحجيم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، وتقليص السلطات السياسية والدينية للإمبراطور، تحولت البيروقراطية، إلى شريك رئيس لتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية ومشروع"دمقرطة"او تحديث يابان ما بعد الحرب وفق تصور سلطات الاحتلال ودول الحلفاء. أما قطاع الأعمال الياباني، ممثلاً بالشركات الكبيرة وجماعات المصالح الخاصة في هذا القطاع، خصوصاً الغرفة اليابانية للتجارة والصناعة، والاتحاد الياباني لجمعيات أصحاب العمل، واتحاد المنظمات الاقتصادية، فقد لعب دوراً بارزاً في توفير الموارد المالية للحزب وأجنحته الداخلية. وأدت السمات السابقة إلى إثارة الجدل حول مدى اعتبار النظام السياسي الياباني نظاماً ديموقراطياً بالمعنى الدقيق، حيث رَفَضت بعض التحليلات إسباغ صفة"الديموقراطي"على هذا النظام، خصوصاً ارتباط ظاهرة التحالف الثلاثي السابق بتراجع مستوى المنافسة السياسية والحزبية وضعف قدرة أحزاب المعارضة على الوصول إلى السلطة، إضافة إلى ما أدت إليه تلك الظاهرة من انتشار ظاهرة الفساد السياسي والاقتصادي. وعلى رغم تلك الانتقادات، ظل النظام الياباني يمتلك الكثير من سمات النظام الديموقراطي ومقوماته، كما أن هذه التحليلات تتجاهل تقويم نموذج الديموقراطية اليابانية في إطار بيئته الثقافية. بل على العكس، فإن نموذج"الديموقراطية اليابانية"يمتلك بعض الميزات المهمة بالمقارنة بالديموقراطيات الأنكلو - أميركية، يأتي في مقدمها ارتباط نموذج"الديموقراطية السياسية"اليابانية بمستوى متقدم من"الديموقراطية الاقتصادية"و"الاجتماعية"بسبب ارتباطه - حتى وقت قريب - بنظام أكثر عدالة في توزيع عائدات التنمية، والمساواة في توزيع الدخول، بالمقارنة بالديموقراطيات الغربية. كما لا تختلف الديموقراطية اليابانية عن مثيلتها الأميركية في ما يتعلق بسيطرة بعض الفاعلين السياسيين، فبينما يُعاب على الديموقراطية اليابانية سيطرة مثلث"البيروقراطية - الحزب الليبرالي الديموقراطي - رجال الأعمال"، فإنه يُعاب على نظيرتها الأميركية سيطرة ما يُعرف بالمجمع الصناعي العسكري. هنا يثور تساؤلان مهمان في ضوء نتائج الانتخابات اليابانية الأخيرة، الأول لماذا نجحت المعارضة في إلحاق الهزيمة بالحزب الليبرالي الديموقراطي؟ والثاني هل سينجح الحزب الديموقراطي في تكريس الانتقال من نظام ديموقراطية"الحزب الواحد"الذي تطور بعد الحرب، إلى نظام ثنائي الحزبية؟ لقد ركزت معظم التحليلات في تفسير هذا التطور على عوامل تتعلق بمشكلة الركود والبطالة وارتفاع مستوى التفاوت الاجتماعي، غير أن فهماً أعمق لهذا التحول يجب أن ينصرف إلى عوامل أكثر عمقاً، فعلى رغم أهمية مشكلات الركود والبطالة والتفاوت الاجتماعي، إلا أنها لا تمثل أسباباً كافية لتفسير هذا التطور المهم. ونشير في ما يأتي إلى ثلاثة عوامل أساسية يمكن أن تفسر لنا - إضافة إلى العوامل السابقة - تراجع الحزب الليبرالي الديموقراطي. يتعلق العامل الأول بفشل الحزب في التعامل مع نتائج مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي. فقد نجح الحزب في إدارة مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتي ركز فيها على ثلاثة أهداف أساسية هي رفع مستوى بناء دولة صناعية، ودخل الفرد الياباني ليتجاوز نظيره الأميركي والأوروبي، والتوزيع العادل للثروة. وقد نجح الحزب في تحقيق هذه الأهداف بالفعل، من خلال التركيز على رفع معدل النمو الاقتصادي، كما نجح في تقليل الفجوات الاقتصادية، على المستويين الإقليمي والقطاعي. ونجح الحزب من خلال هذه السياسات في إنشاء مجتمع صناعي. إلا أن سياسات الحزب التقليدية لم تستطع التعامل مع المجتمع ما بعد الصناعي بمشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، وظل الحزب أسير السياسات والمرحلة التقليدية، وهنا يظهر عدم قدرة الحزب على ابتكار سياسات جديدة للتعامل مع مشكلات الركود وتزايد الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من مشكلات المجتمع ما بعد الصناعي. والحزب الديموقراطي لا يقدم هو الآخر رؤية أو سياسات اقتصادية محددة للتعامل مع تلك المرحلة، باستثناء حديثه عن تشجيع الطلب والاستهلاك المحلي كقطاع قائد للنمو، لكنه يتبنى بالأساس خطاباً وبرنامجاً يتعامل مع المشكلات الاجتماعية، الأمر الذي سهل له توسيع قاعدته الشعبية والانتخابية على حساب الحزب الليبرالي الديموقراطي، خصوصاً في المناطق التي مثلت قواعد تقليدية للحزب الليبرالي الديموقراطي. يتعلق العامل الثاني باستفحال ظاهرة الأجنحة السياسية داخل الحزب، التي اتسمت بخصائص عدة، وكان لها تأثيرها السلبي في أداء الحزب، منها كبر حجم بعض تلك الأجنحة، حيث يتجاوز بعضها حجم الحزب الثاني، أو الثالث داخل النظام الحزبي، والتمايز الأيديولوجي والسياسي في ما بينها. وعلى سبيل المثال، يمثل جناح"كيشي"تيار اليمين داخل الحزب، بينما يمثل جناح"إيكيدا"تيار اليسار. أدت تلك الخصائص إلى اعتبار الحزب الليبرالي الديموقراطي أقرب إلى المظلة العامة أو الائتلاف الحزبي أكثر منه حزباً سياسياً بالمعنى الدقيق للعبارة، ووجود حال من الصراع الشديد داخله بسبب التنافس بين تلك الأجنحة على قيادة الحزب وعلى المناصب السياسية. كما أدت من ناحية أخرى إلى الاعتماد المكثف على البيروقراطية ومحاولة استقطابها كآلية لإدارة الصراع بين الأجنحة داخل الحزب، الأمر الذي انعكس، بدوره، على اتساع حجم النفوذ السياسي للجهاز البيروقراطي، وتبني الحكومات اليابانية المتعاقبة موازنات ضخمة كجزء من استقطاب هذا الجهاز. كما كان لظاهرة الأجنحة دور مهم في عدم قدرة الحزب على اتخاذ سياسات محددة وواضحة في شأن قائمة المشكلات الأساسية التي واجهت اليابان خلال السنوات السابقة، بسبب الوقت الطويل الذي تتطلبه عمليات بناء التوافق الداخلي حول تلك السياسات أو مشاريع القوانين. ويتعلق العامل الثالث بفشل الحزب في إنجاز عملية الإصلاح السياسي التي أعلنها الحزب: شغلت قضية الإصلاح السياسي اهتماماً متزايداً داخل اليابان خلال السنوات الماضية، غير أنه ظل هناك قدر كبير من الخلاف حول مفهوم هذا الإصلاح، وحدوده، بين الحزب الليبرالي الديموقراطي من ناحية، وبقية القوى السياسية من ناحية أخرى. وارتبط مفهوم الحزب الليبرالي الديموقراطي للإصلاح بهدفين رئيسين، الأول هو الاستجابة النسبية لمطالب الإصلاح من جانب المعارضة، والثاني هو الانطلاق من مفهوم محدد للإصلاح يضمن الحفاظ على الوضع المسيطر للحزب. وفي هذا الإطار، انصرف الإصلاح السياسي الذي تم تطبيقه خلال فترات حكم الحزب الليبرالي الديموقراطي إلى مجالين رئيسين هما إصلاح النظام الانتخابي، والإصلاح الإداري، وتعديل المادة التاسعة من الدستور. وعلى العكس من المفهوم السابق، فقد طرحت المعارضة مفهوماً للإصلاح يتجاوز الأبعاد السابقة، ليشمل إصلاح النظام الحزبي، وإنهاء ظاهرة سيطرة الحزب الليبرالي الديموقراطي، وظاهرة التحالف الثلاثي بين الحزب الليبرالي الديموقراطي والبيروقراطية ورجال الأعمال، وما ارتبط بها من انتشار الفساد، وضعف المعارضة السياسية، إضافة إلى ظاهرة الأجنحة الحزبية التي تسيطر على الأحزاب السياسية، بما في ذلك الحزب الليبرالي الديموقراطي، والتي أثرت في الأداء السياسي للأحزاب السياسية. أما في ما يتعلق بقدرة الحزب الديموقراطي على تكريس الانتقال إلى نظام ثنائي القطبية، فإن ذلك يعتمد على عوامل عدة، أولها نجاح الحزب في تشكيل حكومة مستقرة، كما يعتمد ثانياً على قدرة الحزب على التناوب الدوري النسبي على السلطة مع الحزب الليبرالي الديموقراطي، بحيث لا تكون الحكومة الجديدة للحزب الديموقراطي مجرد استثناء عن القاعدة السياسية التاريخية، ولا شك في أن هذا سيعتمد بدوره على عوامل كثيرة من بينها قدرة حكومة الحزب على مواجهة قائمة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة. وواقع الأمر أن هناك شكوكاً كبيرة حول قدرة الحزب الديموقراطي على تكريس هذا الانتقال. فمن ناحية، وحتى بافتراض قدرة الحزب الديموقراطي على تشكيل حكومة مستقرة، فليس من المؤكد أن تقدر الحكومة على مواجهة مشكلات الركود، والبطالة، والرعاية الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، وانتهاء بقضية الإصلاح السياسي. واللافت هنا أن الحزب قد ركّز في معرض انتقاده لأداء حكومات الحزب الليبرالي الديموقراطي على ما سماه"هدر الموارد الاقتصادية"واعتماد موازنة ضخمة، ومع ذلك فقد ركز البرنامج في معالجته للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية على طرح عدد من الأدوات المالية تركزت في زيادة الإنفاق الحكومي على الدعم الموجه للبطالة وللأسر المعيلة، وهي أدوات من شأنها دفع الحزب الى الوقوع في المشكلة ذاتها التي عابها على حكومات الحزب الليبرالي الديموقراطي. غير أن العامل الأهم يتمثل في حال التحالف التاريخي بين الحزب الليبرالي الديموقراطي والبيروقراطية والشركات الكبيرة، ومدى استعداد البيروقراطية للتعاون مع حكومة الحزب الديموقراطي، وهو احتمال ضعيف بالنظر إلى رؤية الحزب لمستقبل العلاقة بين الحكومة والبيروقراطية. إذ يطرح الحزب رؤية تقوم على إنهاء علاقة التحالف تلك، والتي يعتبرها في الحقيقة أقرب إلى علاقة التبعية منها إلى علاقة الشراكة. ويطرح البرنامج الانتخابي للحزب في هذا الإطار خمسة مبادئ لإعادة تنظيم تلك العلاقة، كان أولها التحول مما سماه"نمط الحكومة المنتدبة لدى البيروقراطية"إلى"حكومة يقودها السياسيون"ويكون الحزب مسؤولاً عنها مسؤولية كاملة. وبهذا المعنى، وفي حال تمسك الحزب بهذا التصور وتطبيقه لما طرحه حول تحجيم الدور السياسي للبيروقراطية، من المتوقع أن تدخل البيروقراطية في صراع مع حكومة الحزب، قد تنتهي بسقوطها على نحو ما حدث مع الحكومة الائتلافية المعارضة في أوائل التسعينات، ليعود الحزب الليبرالي الديموقراطي مرة أخرى إلى السلطة. وهكذا، فإن نجاح الحزب الديموقراطي في تكريس الانتقال من نموذج ديموقراطية الحزب الواحد المسيطر إلى ديموقراطية تقوم على الثنائية الحزبية يعتمد على عوامل عدة، بعضها هيكلي يحتاج إلى مدى زمني أطول من تجربة انتخابية واحدة. * باحث مصري في الشؤون الآسيوية نشر في العدد: 16972 ت.م: 22-09-2009 ص: 19 ط: الرياض