حاولت طرد فكرة تلح منذ شهور، ولم أفلح. فكرت أن مؤسسات الغرب العسكرية جميعاً لا بد مرتبكة ومشتبكة مع بعضها البعض حول رؤى مختلفة وتصورات متباينة تتعلق بأدوارها والمطلوب منها. وفكرت أننا لا بد من أن نتأثر عما قريب من جراء هذا الارتباك. نشأت هذه الفكرة منذ وقت غير قصير ثم تعززت على ضوء ما يحدث في أفغانستان على صعيد الحرب والسياسة معاً وعلى ضوء ما يحدث داخل مجتمعات بعض الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي. صرت مقتنعاً بأن أفغانستان ستقرر قريباً مصير الحلف الأطلسي، بعد أن ألحقت به هزيمتين، إحداهما عسكرية كشفت عنها الخسائر المتفاقمة بين جنود الحلف، وبخاصة الجنود الألمان والبريطانيين، ناهيك عن خسائر القوات الأميركية وتشرذم قوات الحلف وتخبطها. أما الهزيمة الثانية فكان صداها أقوى في عديد الدول خارج الحلف كما في داخله، إذ فشل الحلف في أن ينظم في افغانستان انتخابات نظيفة نسبياً في جو ديموقراطي صحي، بل انتهت إلى نتائج شبه مرفوضة سلفاً من جانب خصوم الرئيس كارزاي، ومشكوك في صحتها ونظافتها من جانب خبراء استقدم بعضهم حلف الأطلسي وأرسل البعض الآخر الاتحاد الأوروبي للإشراف عليها وتسجيل المخالفات التي ارتكبتها الأطراف المتنافسة. بمعنى آخر سقط الحلف الاطلسي في أول امتحان له خارج أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة، عندما فشل في إلحاق الهزيمة بحركة"طالبان"وعندما فشل في نقل أفغانستان إلى عالم الديموقراطية الغربية. لقد ذهب الحلف الأطلسي إلى أفغانستان بقرار"عاطفي"اتخذه مجلس الحلف عملاً بالمادة الخامسة من ميثاقه القاضية بمؤازرة الولاياتالمتحدة عقب تعرضها في الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 لعدوان"خارجي". يصعب على المرء أن يقرر الآن ما إذا كانت دول في الحلف وافقت على القرار بأمل أن تعفيها الولاياتالمتحدة في المستقبل من المشاركة الفعلية في حرب هي التي اختارتها ووضعت أهدافاً تخدم مصالحها بالدرجة الأولى، أو على الأقل تصورت في ذلك الحين أنها تخدم مصالحها. أم أنها، أي الدول الأعضاء، وافقت لأن حكوماتها لم تكن تستطيع الإمتناع أمام المشاعر المتعاطفة مع الشعب الأميركي. لا ننسى على كل حال أن معظم حكومات الحلف لم تكن تعرف تماماً المطلوب منها أو من الحلف. فالحلف لم يكن، حتى ذلك الوقت، قد وجد هدفاً مناسباً يبرر وجوده، ولم يكن يحظى بترف وجود عدو في مكان ما يكون سبباً في تنشيطه وتفعيل عملية التنسيق بين أعضائه. ما نعرفه، وما تعددت البراهين عليه، هو أن الحلف الذي عاش أربعين عاماً يخدم هدفاً معروفاً ومحدداً وجد نفسه بعد سقوط النظام السوفياتي في موسكو وانفراط حلف وارسو من دون هدف ومن دون قضية. خرج من الحرب الباردة منتصراً ولكن من دون وظيفة محددة كتلك التي كان يؤديها على امتداد الأربعين عاماً. وظل بعدها عشرين عاماً يبحث عن وظيفة وعن دور وكذلك عن عدو يتناسب وضخامة مؤسساته التي تشكلت لمواجهة خصم عملاق كالشيوعية أو الاتحاد السوفياتي. يذهب خبراء إلى أن المسؤولين عن الحلف الأطلسي، وبخاصة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، كان يجب عليهم إعلان انتصار الحلف في الحرب الباردة التي نشأ خصيصاً من أجلها، وفور إعلان الانتصار كان عليهم حل الحلف. ولا بد أن أسباباً متعددة حالت دون ذلك، وتختلف الآراء حول أولويات هذه الأسباب. المؤكد أولاً أن كل الأطراف الدولية، وبخاصة الاطراف الرئيسية، كانت مرتبكة إلى حدود قصوى. كان السقوط السوفياتي مفاجئاً للجميع، وبخاصة للحلف الذي كانت إحدى مسؤولياته متابعة الأحوال داخل الكتلة الشرقية والتنبؤ بتطورات الأوضاع في الاتحاد السوفياتي. كنا، في وقت من الأوقات، ندرس الصراعات الدولية ونظرياتها ونكتب عن نزاعات يمكن أن تسوي نفسها بنفسها بمجرد أن يقرر طرف في النزاع انسحابه منه من دون أن يدخل في حرب ومن دون أن يبدي أسباباً لذلك ومن دون أن تصدر عنه تصرفات وممارسات تساعد في التنبؤ بأنه قد يحاول الانسحاب. ولكن كنا دائماً نعتبر هذه الحالة من حالات انتهاء الصراعات لا تخرج عن كونها تصوراً نظرياً. ولذلك لم يقتصر الشعور بالمفاجأة على السياسيين بل ساد دوائر أكاديمية ومراكز بحث عدة في شتى أنحاء العالم. وبعض هذه المراكز كان يعمل في خدمة مراكز القيادة السياسية والعسكرية في حلف الاطلسي وكانت وظيفته التنبؤ بمستقبل الحرب والسلام. ثانياً: نستطيع أن نلقي مسؤولية عدم الالتفات إلى خيار حل الحلف على الزعامة الأميركية التي انشغلت وقتذاك بدراسة أفكار من نوع إقامة نظام عالمي جديد. وكان الرئيس بوش الأب أول من دشن الفكرة في أعقاب انتهاء حرب تحرير الكويت، وهي الحرب التي خاضها بحلفاء من خارج الاطلسي وخرج منها منتصراً، وخرجت معه الطبقة الحاكمة في أميركا، وبخاصة المؤسسة العسكرية، مقتنعة أن أميركا، والغرب عامة، في حاجة عاجلة إلى عدو جديد وبالتالي إلى استراتيجية جديدة تقوم على حقيقة بازغة أو تمن طموح، وهو أن أميركا ستقود العالم منفردة، وأن النظام الدولي يتحول إلى نظام أحادي القطبية. لذا تأخر اتخاذ قرار في شأن مصير الاطلسي الذي نشأ واستمر أداة من أدوات نظام ثنائي القطبية. ولم تكن واضحة تماماً صلاحيته ليلعب دوراً في نظام دولي أحادي القطبية. ثالثاً: استحوذ على قادة أوروبا في ذلك الوقت هم جديد وكبير، ألا وهو إعادة توحيد ألمانيا. فالحلم الذي كان جميع زعماء أوروبا من دون استثناء يعلنون أنه يراودهم ولا يتخلون عنه، أصبح حقيقة واقعة، وأكاد أقول، مزعجة. لم تكن فرنسا سعيدة بهذا التطور الخطير والمفاجئ، ولا كانت السيدة ثاتشر في لندن سعيدة. وأعتقد أن قادة آخرين في أوروبا اعتبروا إعادة توحيد ألمانيا كابوساً، تعود أوروبا بفضله إلى الحروب والانشقاقات العنيفة. ربما فكر الكثيرون وقتها أن ألمانيا الموحدة لن تتحمل أن تكون عضواً في الحلف الاطلسي، وأنها ستفضل انفراطه لتتحرر من حلف يقيد انطلاقها نحو دور قيادي في أوروبا ونحو حرية أوفر لعقد تحالفات مع دول في شرق القارة. وفي الوقت نفسه ربما فكر آخرون أن المحافظة على الحلف ستحد من طموحات ألمانيا الموحدة وتضع سقفاً يمنع عودتها إلى ممارسة سياسات توسع أو هيمنة، معتبرين أن وجود الحلف يعني وجود أميركا، القوة الأعظم والقيد الأكبر على طموحات الدول الأوروبية. أتصور أن هذا التردد ترافق مع المفاجأة التي شلت موقتاً الحياة السياسية في أوروبا خلال عقد التسعينات. رابعاً: اعتقد أن انفراط الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية لم يتبعهما تغير يذكر في صورة"روسيا"لدى قادة أوروبا الغربية، وإلا لأبدى هؤلاء القادة تفهماً أكبر لفكرة حل الاطلسي وركزوا أكثر على دراسة بدائل الحلف، سواء في شكل سياسات أو في شكل مؤسسات. المؤكد، من وجهة نظر خبراء الكرملين في الولاياتالمتحدة، أن عدم التأكد من مصير روسيا والتخوف من احتمالات عودة سياسات الهيمنة الروسية لعبا دوراً أساسياً في عدم اتخاذ قرار بحل الاطلسي. ومع ذلك، يبدو أيضاً في حكم المؤكد أن استمرار الحلف كان سبباً، لا يمكن إنكاره، في بث خوف مماثل لدى المسؤولين في موسكوولدى الشعب الروسي في شكل عام. وفي كل الأحوال لم يقصر المسؤولون الأوروبيون والأميركيون في تعميق هذا الخوف بدليل الحملة التي شنت لتوسيع نطاق الأراضي والدول المشمولة بحماية الحلف الاطلسي وضم أعضاء جدد اليه من شرق أوروبا. ونستطيع الآن أن نقول وبخاصة بعد الهزائم العسكرية والسياسية التي مني بها الحلف في أفغانستان، إن الاضرار الناجمة عن وجود الاطلسي تفوق منافعه عدداً وأهمية. فإلى جانب ما تتسبب فيه ميوعة وضع الحلف وفقدانه لبوصلة توجه مساره من خلافات بين الدول الأعضاء ومواقف حرجة ناتجة من صعوبة التنسيق بينها، ظهرت بوضوح مؤشرات على فجوات تتسع باستمرار بين المؤسسات العسكرية في دول الحلف، كان أكثرها وضوحاً سوء الفهم الذي تكرر خلال الحربين اللتين خاضهما الحلف الاطلسي في كوسوفو والبوسنة والحرج البادي في العلاقات بين قادة الجيوش الممثلة لدول الحلف في أفغانستان. نقرأ عن انتقادات بعضها مستتر وبعضها معلن لجنود في القوات الألمانية يتفادون الاشتباك مع قوات"طالبان"، وهي الاتهامات التي يرفضها المسؤولون العسكريون الألمان متمسكين بنص الدستور الألماني الذي لا يسمح لهم بالاشتراك في عمليات قتالية. من ناحية أخرى تكررت تلميحات من قادة عسكريين أميركيين حول تقصير القيادة العسكرية البريطانية بامتناعها عن تزويد قواتها المقاتلة في أفغانستان بالعتاد المناسب. ومع ذلك تظل الخطورة الأكبر نتيجة استمرار الحلف الاطلسي هي الاستقطاب المتفاقم بين غرب يمثله حلف عسكري يشهر سلاحه دائماً ودول في آسيا وأفريقيا مهددة دائماً بالغزو من قوات هذا الحلف. * كاتب مصري نشر في العدد: 16971 ت.م: 21-09-2009 ص: 11 ط: الرياض