يلقي الإفراج عن عبدالباسط علي محمد المقرحي، الضالع في تفجير طائرة في لوكربي، الضوء على نزاع قديم بين المصالح الوطنية البريطانية والقيم في ميزان السياسة الخارجية البريطانية. ولا شك في أن حكم القانون هو أبرز أركان الديموقراطية. والقضاء السكوتلندي دان المقرحي بعد أن وجده مذنباً. وعليه، يفترض احترام القانون بقاءه وراء القضبان. ولكن المصالح الوطنية البريطانية تملي غير ذلك. فليبيا انتهجت سياسة براغماتية. وهي، اليوم، حليف مهم في مكافحة الإرهاب والانتشار النووي. وحقول البلد النفطية تزخر ب 42 بليون برميل نفط، وكميات كبيرة من الغاز الطبيعي. ولذا، تحرص بريطانيا على تفادي تردي العلاقات الثنائية مع ليبيا، وتفرج عن المقرحي، وهو في عقده السادس ومريض مصاب بمرض عضال في فصوله المميتة الأخيرة. وفي تشرين الثاني نوفمبر الماضي، صادقت بريطانيا على اتفاق مريب آذن بقرب الإفراج عن المقرحي، وهو اتفاق تبادل المسجونين بين ليبيا وبريطانيا. وسرى العمل بهذا الاتفاق بدءاً من 29 نيسان أبريل المنصرم. واطلاق سراح المقرحي هو نموذج كلاسيكي عن اصطدام المصالح الوطنية بالقيم. وقد يبدو أن الخطوة هذه تجافي الأخلاق والقيم. ولكن ليس إيلاء بلد ما مصالحه الأولوية معيباً. ولا يجوز التوقف عند مصير رجل واحد، إذا كان أمن بريطانيا ووظائف عدد من البريطانيين على المحك. والحق أن التاريخ البريطاني حافل بترجيح بريطانيا كفة القيم على المصالح. وخير مثال على ذلك هو إبطال تجارة الرقيق، في 1807. ويومها، اختارت بريطانيا الحاق الضرر بمصالحها الاقتصادية في حقول السكر الكاريبية، ومواجهة أبرز حلفائها في سبيل ما رأته قضية عادلة. ولم يكن في وسع الحكومة، يومها، ترجيح المصالح على القيم. فمثل الترجيح هذا كان انتحاراً سياسياً. وفي القرن التاسع عشر، نشرت الحكومات البريطانية المتعاقبة جزءاً كبيراً من الأسطول الملكي لمكافحة تجارة الرقيق في الأطلسي. ولكن كفة المصالح غلبت في سبعينات القرن التاسع عشر على كفة القيم. ففي 1870، قمعت تركيا انتفاضة في بلغاريا قمعاً دموياً. ولكن حكومة بنجامين ديزرائيلي، غضت النظر عن القمع التركي، ولم تتدخل. فهي قدرت أن تركيا حليفتها في مواجهة التوسع الروسي. وفي 2000، تدخل رئيس الوزراء، توني بلير، في سيراليون، على رغم ضعف المصالح البريطانية في البلد. وأرسل جنوداً بريطانيين الى عاصمة أفريقية للحؤول دون سقوطها في يد المتمردين واندلاع حرب أهلية. ولم تقف بريطانيا مكتوفة اليدين أمام عمليات التطهير العرقي في كوسوفو، في 1999، على رغم أن مصالح بريطانيا لم تكن لتتضرر من العمليات هذه. وجليّ أن القيم الوطنية توجه السياسة الخارجية البريطانية حين يلتزم الرأي العام البريطاني القضايا السياسية. وتميل الحكومات، في حال رُفع عنها قيد الرأي العام ورقابته، الى تغليب المصالح الوطنية الضيقة، على القيم، على ما حصل في 2006. فيومها، ترك القضاء التحقيق في صفقة رشاوى في عملية بيع أسلحة جوية لدولة خليجية بارزة. وفي مطلع 2009، رفضت المحكمة العليا كشف وثائق متعلقة بزعم بنيام محمد الاثيوبي أن البريطانيين ضالعون في عمليات تعذيب تعرض لها. وسوّغ ديفيد ميليباند، وزير الخارجية البريطاني، قرار المحكمة العليا بذريعة أن كشف المعلومات يتهدد التعاون بين الاستخبارات البريطانية ونظيرها الأميركي. * معلق، عن"دايلي تيليغراف"البريطانية، 19/8/2009، إعداد منال نحاس نشر في العدد: 16945 ت.م: 26-08-2009 ص: 24 ط: الرياض