يقف وزير المال البريطاني في البرلمان في لندن كلّ سنة، ويعلن الموازنة البريطانيّة السنويّة عادةً في شهر آذار مارس, بيد أنّه أجلها هذه السنة إلى 22 نيسان أبريل بسبب عدم الاستقرار الناجم عن أزمة المال. ما يعني عدم توفر وقتٍ كافٍ حتّى للتمعُّن في معدّلات الضريبة والمخطّطات الجديدة التي أعلنها الوزير. ويرجّح، كما في السنوات السابقة، أن يكون لهذه الإعلانات عواقب غير مقصودة من شأنها أن تبرز ضرورة إحداث تغييرات. كان الوزير كثير الانشغال خلال الأشهر الستّة الماضية. فكان عليه أن يواجه مستويات فوضى مرتفعة في أسواق المال إضافة إلى إدراك العالم أجمع تقريباً بأن ما كانت تعيشه بريطانيا في الأعوام العشرة الماضية كان يفوق قدرته. وتنظر مجتمعات الأعمال والسياسة بقلقٍ متزايدٍ إلى الاقتصاد البريطاني نظراً إلى استمرار الحكومة في لندن بالعمل وفقاً لفرضيات وأرقام وصفها البعض وهم باعتراف الجميع أعداء الوزير السياسيّين بأنها"منافية للعقل". وجدير أنّ كلفة إنقاذ المصارف البريطانيّة تتعدّى بكثير تقدير الحكومة الأساسيّ، وفي يوم إعلان الموازنة ذُكر أنّ الخسارة التي تتوقعها الحكومة قد تصل إلى 50 بليون جنيه إسترليني أي 72 بليون دولار. بيد أنّ صندوق النقد الدولي يتوقّع أن تصل الخسارة إلى 130 بليون جنيه حتّى أنّ أرقام الحكومة البريطانيّة تفيد أن مبلغ ألف بليون جنيه معرض للخطر بموجب برامج إنقاذ حكومية منذ إنقاذ مصرف"نورثرن روك"في أيلول سبتمبر عام 2007. ويقوّم مديرو صناديق محافظ تابعة لصناديق تقاعد، وشركات تأمين عملاء أفراد وغيرها من الشركات استعداداً لاستمرار مرحلة الانكماش الاقتصادي، يليها ظهور التضخّم مجدداً. ويشدّد التركيز على الذهب والسندات المدرجة في مؤشرات على أنّ عودة التضخّم تترافق مع انتشار التهدئة الائتمانية عبر ضخ السيولة أي طباعة النقود في بريطانيا والولايات المتّحدة وبلدان أخرى. ويخشى مديرون أيضاً احتمال أن تعتبر الحكومات تجارة الذهب غير شرعيّة ويصعب تخيّل كيفية قيامها بذلك بهدف مقاومة التحوّل من عملاتها إلى المعدن الصلب. غير أنّ الحكومة تنسى أنّها كانت سعيدة لرؤية الفقاعة تنمو إلى جانب الاعتقادات السائدة حيال الثروة التي أعطت انطباعاً عن إدارة ناجحة للاقتصاد. وقد انجرفت الحكومة العمّاليّة في بريطانيا في موجة الرفاهية الظاهريّة، وكان يفترض بها تنظيم المصارف والنظام المالي لتجنّب هذا النوع من الفوضى الذي نشهده حاليّاً. الملاذات الضريبيّة وتتمثّل المجموعة الثانية المتهمة بمساهمتها في إثارة الفوضى بالأشخاص الذين يتهرّبون من الضرائب أو يتجنّبون دفعها. وفي اجتماع مجموعة الدول العشرين في لندن مطلع نيسان، كان ثمّة تفاوت بين سياسة الألمان من جهة وسياسة البريطانيّين والأميركيّين من جهةٍ أخرى. فالولايات المتّحدة وبريطانيا أرادتا أن تنفقا الأموال للخروج من دائرة الركود في حين أرادت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تشجيع الناس على الادّخار وخفض النفقات. وكان من الصعب التوفيق بين الموقفين المتعارضين، علماً أنّ منظّمي اجتماع الدول العشرين الكبرى أدركوا ذلك قبل انطلاق هذا الحدث حتّى. وإن كان ثمّة خلاف في شأن نتيجة اجتماعات مجموعة الدول العشرين الكبرى، فالوسيلة الوحيدة لضمان نجاح العلاقات العامّة والسياسية هي في إيجاد"شيء ما"قد يتفق عليه كلّ السياسيّين. وكان مفاد هذا"الشيء"أنّ الملاذات الضريبيّة ومن يحاول التهرّب من دفع الكثير من الضرائب في حاجة إلى المراقبة ويجب إنهاء السريّة المصرفيّة والكشف عن الأعمال الماليّة للأغنياء. ونتيجة ذلك، نجح اجتماع مجموعة الدول العشرين في إظهار حالة من الوحدة والثقة أكثر ممّا كانت عليه الحال. وطالما أعلن كل من الرئيس باراك أوباما وغوردن براون عن رغبتهما في أن يكونا أكثر صرامةً في موضوع الملاذات الضريبية والسرية المصرفية. كما أرادت الحكومة الفرنسية ومعها حكومتا موناكو وسويسرا أن تفعل بالمثل منذ سنوات. وعملت سويسرا على تخفيف إجراءات السرية المصرفية في حالات محدودة، لكن الحكومة السويسرية تخلت حتى قبل الاجتماعات التي عقدتها مجموعة العشرين، عن الأمن المصرفي بإجبار مصارفها على إفشاء أسماء من أصحاب الحسابات الأميركيين، ما شكل خرقاً واضحاً لقوانين السرية المصرفية السويسرية القديمة بسبب الضغوطات السياسية المرتبطة ربما بالوضع المالي الصعب الذي يعانيه أهم مصرف في سويسرا"يو بي أس". وكان وزير المال البريطاني أجرى في موازنته في آذار الماضي تعديلات على القوانين الضريبية التي جعلت المملكة المتحدة وجهة أقل جاذبية للأشخاص من الخارج. ولغاية تلك اللحظة، كانت المملكة المتحدة بالنسبة إلى كثيرين، ملاذاً ضريبياً. إلا أن هؤلاء الأشخاص الذين استفادوا من هذه المزايا الضريبية واستثمروا في المملكة المتحدة كانوا مساهمين أساسيين في اقتصاد المملكة المتحدة بطرق مختلفة. حتى أن البعض منهم يدفع الضرائب أكثر مما يجب ليس لأنه مجبر على ذلك بل لأنه يريد دفعها وهم يعملون على جلب الأموال الكافية إلى المملكة المتحدة بهدف التوصل إلى ما يرونه نسبة معقولة من الضرائب. وشعر عدد كبير من المحامين والمحاسبين بالقلق عندما تم إجراء هذه التغييرات. ففيما رحل عدد من الأشخاص لا سيما أولئك الذين يملكون ثروة كبيرة على صعيد دولي، عن المملكة المتحدة وتمّ ردع العديد من الاستثمار في البلد، كان المحاسبون والمحامون والمستشارون الآخرون يعملون بكد على إيجاد طرق لجعل المملكة المتحدة وجهةً تجذب الأشخاص والمستثمرين الدوليين ورؤوس أموالهم. ضريبة الدخل 50 في المئة ابتداءً من نيسان 2010، سترتفع النسبة الأعلى من ضريبة الدخل لتصل إلى 50 في المئة وتطبق على الأشخاص الذين يجنون أكثر من 150 ألف جنيه استرليني في السنة ولن يحق لأي شخص يجني أكثر من 100 ألف جنيه استرليني سنوياً أن يحصل على إعفاء من الضريبة. ونتيجة لذلك، يدفع الأشخاص الذين يجنون بين 100 ألف جنيه استرليني و112,950 جنيه استرليني نسبة هامشية تبلغ 60 في المئة على الشريحة العليا من مدخولهم. ويبيّن الارتفاع في معدلات الضريبة على الدخل الذي سيفرض على رجال الأعمال الناجحين والذي لن يرفع معدل دخل الحكومة، مدى تأثير السياسة في القرارات المتعلقة بالموازنة. ويعتبر ارتفاع النسب الضريبية لأثرى 2 في المئة من الناخبين محبذاً سياسياً في المملكة المتحدة بما أنه يؤثر في عدد قليل ويحوّل الانتباه عن القصة الحقيقية وهي قيمة الدين الذي قد تواجهه المملكة المتحدة على مدى سنوات عديدة وبعد فترة طويلة من رحيل وزير المال عن منصبه. وتركز هذه الموازنة السياسية وليس الاقتصادية على الانتخابات التي ستجري في أيار مايو السنة المقبلة حيث ترغب الحكومة في أن تقنع أكثرية الشعب بأنها تبذل قصارى جهدها للتعامل مع الأزمة والمشاكل الدولية التي فرضت على المملكة المتحدة من الخارج. الترتيبات الضريبية يبقى لنا أن نعرف كيف ينظر مجتمع الأعمال الدولي إلى اقتصاد المملكة المتحدة وما إذا كنا سنستعيد في لندن اللقب القديم"رجل أوروبا المريض"فيما يتم التساؤل حول حكومتنا وحول ما إذا كنا قادرين على سد ديوننا أم لا. ففي هذا الوقت، يحتاج المستثمرون في المملكة المتحدة والأشخاص الذين يعيشون هنا إلى التفكير في ترتيباتهم الضريبية في ضوء التغيرات التي تحصل هنا وفي سويسرا وفي الملاذات الضريبية الخارجية التي لم تعد آمنة كما كانت من قبل. فقد ساهمت العولمة في جعل الأعمال مسألةً دوليةً، كما أنها تجعل عملية جمع الضرائب مسألةً دوليةً علماً أن السلطات المعنية بالضرائب تتكلم مع بعضها البعض. * محام في لندن