لعل أكثرَ ما يلفت لدى متابعة المشهد العربي العام ميلُه إلى الحدة الظاهرة، في الجدل والمواقف، وربما كان ذلك عائداً إلى حالة الاضطراب التي يعيشها العالم العربي، منذ عقود، وقد تصاعد في السنوات الأخيرة الإحساس بالخسائر السياسية، إذ ظهر زيف كثير من الخطابات الشعاراتية، ولم تصل أية قوة إسلامية ولا ليبرالية، أو غيرهما، إلى درجة الحسم الجماهيري، وزاد الطين بِلَّة دخول العالم في طور الانكماش، أو الركود الاقتصادي"فأثر ذلك على المواطن العربي قلقاً وعدوانية. وثمة عامل متفرع، من العوامل السابقة أسهم في تنامي المشاعر السلبية"هو سقوط الرموز"الكبرى"، فعلياً، من حياة العرب، أمثال جمال عبدالناصر، وقد خلق ذلك، لدى الكثيرين فراغاً قيادياً، كما لم يخلُ من آثار وجدانية. لم تَعْدم الشعوب العربية نقاطاً مضيئة، تمثلت في مواقف ردت إليها بعضاً من اعتبارها، كما حدث في معركة الكرامة 1968 بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين من جهة، والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، وحرب أكتوبر 1973، حيث تمكن الجيش المصري من عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، كما تمكن الجيش السوري من تحرير مدينة القنيطرة الرئيسية وجبل الشيخ مع مراصده الإلكترونية المتطورة. وكذلك ما مُني به جيش الاحتلال من خسائر في حرب لبنان 1982، ثم ما اعترف به من فشل في حربه على لبنان صيف 2006، وقبل ذلك انسحابه من جنوبلبنان عام 2000، من غير اتفاق، وكذلك فعل في غزة عام 2005، وأخيراً جاءت حربه على غزة، وإن كانت مدمرة، وشديدة البشاعة، ولكنها لم تحقق الكثير من أهدافها، وقصارى ما أرادوه، أو طمحوا في تحقيقه استعادة شيء من قوة الردع، والحد من تهريب السلاح، وتوجيه ضربة"تأديبية"لفصائل المقاومة. كانت تلك اللحظات المضيئة تبعث في الناس شيئاً من الحماسة والأمل، لكن، لا تقوى على إدامة هذا الشعور لدى عامة الناس، وإن كان يفترض إنها تراكم فيهم وعياً إيجابياً"يستعيد لهم الثقة بقدراتهم. هنا تنهض الأسئلة عن العلاقة بين عوامل إنضاج حالة عربية تحاذي النهوض، ولعل من أبرز المفارقات التي تختصر ذلك، قضية الصحافي العراقي وحذائه"فقد كشفت استعجالاً لتلك المشاعر المفتقدة، كما إنها عكست استخفافاً بمتطلبات النهوض، والفريق الذي صور ذلك نصراً عزيزاً هو أحد شخصين، إما جاهل أو مفتقد للجدية، جاهل بعمق العلل التي يعاني منها الراهن العربي، أو غير جاد بسعيه للتغيير، بل إنه يستجدي التعاطف الشعبي، ولا يوجهه أو يرشده، ينساق وراءه ولا يقوده ويُبصِّره. وإذا توخينا الإنصاف نقول إن تلك المظاهر المُوَّزعة بين انتصارات عسكرية محدودة، أو حالات صمود ومقاومة، أو مواقف رفض للاستعمار والتبعية، هي علامات على حيوية باقية في الأمة، ولكنها لا تغني عن جهود فكرية وثقافية، للارتفاع بمستويات التفكير وتصويب طرائقه. ولا يُنتظر ذلك ولا يُكتب له النجاح، في جو من الاحتقان الفكري والانفعالات الحادة والتعصب. إن الوضع العربي أخطر من أن يحتمل ترف المناكفات، والشخصنة، وتضخيم الذوات، إنه في أمس الحاجة إلى أصحاب مشاريع فكرية ثقافية إنسانية في طابعها، وملامح منظريها. ولعل أكثر ما يجذب الناس هو الإيجابية والخطاب الإنساني، في مقابل الخطاب الاستعلائي أو العدواني، وقد كان هذا سر التحول التاريخي الذي عرفته الولاياتالمتحدة من بوش وإدارته الصدامية، إلى أوباما، وخطابه الديبلوماسي الحواري القائم على التعاون مع الحلفاء، والحوار مع الأعداء، وبقطع النظر عن حظ تلك الشعارات من الواقع، وقدرة الإدارة الحالية على الوفاء بها فقد كانت سبباً في كبح سيل الكراهية لأميركا، وهذا حصل مع الدولة الأولى في العالم، والقوة التي لا تجد لها، حتى الآن نداً بين الأمم، ما يعني أن القوة الصلبة، لا تغني، عن القوة الناعمة والأساليب الحكيمة. ولعل أولى الفئات التي يعلق عليها الأمل في بعث هذه الروح الإيجابية في أوساطنا العربية، ومنابرنا الإعلامية، فئة المثقفين المحكومين بطبيعة مهمتهم، ومجال عملهم، بإعلاء نبرة العقل الموضوعي، وبناء أجواء حوارية، لا تتعالى على الجماهير بخطابها النخبوي، ولا تنحدر إلى مستويات تفقدها أية مَزيِّة للاتباع والقيادة. الدكتور أسامة عثمان - بريد الكتروني