كيف نكتب تاريخاً موحداً ل18 طائفة؟ سؤال يختصر معضلة 20 عاماً عجزت خلالها الحكومات اللبنانية المتعاقبة عن وضع كتاب تاريخ موحّد يأخذ طريقه الى المناهج التعليمية في المدارس. وقد يتحتم على اللبنانيين انتظار سنوات اضافية أخرى، قبل أن تلتئم"طاولة كتاب التاريخ"مجدداً، وتصدر صفحاته الحافلة بالأحدات والتطورات المصيرية التي طبعت الحقبة الماضية. "كتاب التاريخ يحتاج الى توافق سياسي"، حقيقة يجمع عليها سياسيو لبنان... لكن التنفيذ مؤجل. وأمام الفرز السياسي الحاد القائم اليوم، يبدو صعباً جلوس أكاديميين ومؤرخين الى طاولة واحدة،"لإعادة إحياء"كتاب وضعته لجنة سابقة قبل تسع سنوات، أو لإيجاد تعريف جديد لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وما سبقها وما تلاها. قضى"ميثاق الطائف"الصادر عام 1989 ودستور البلاد، بتوحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية و"إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين والانفتاح الروحي والثقافي". بعد هذا التاريخ أعطيت الأولوية لإعداد وإقرار المناهج التعليمية الجديدة، ثم ألّفت لجاناً عدّة لإصدار الكتاب، كان يصطدم أعضاؤها بآرائهم المتناقضة، ما أدى الى حدوث استقالات وانفراط عقدها. وبقرار من مجلس الوزراء في 26 -3 -1997 بدأ المركز التربوي للبحوث والانماء في وزارة التربية الوطنية العمل على تشكيل لجان للإشراف والتخطيط، من أجل إخراج كتاب موحّد للبنانيين يدرّس في جميع المدارس الخاصة والرسمية. وضعت اللجان، التي اختير أعضاؤها وفق المعيار الطائفي، الأهداف العامة وأنهتها في العام 2000 وصدرت في مرسوم يحمل الرقم 3175 في 8 حزيران يونيو، الا أن وزير التربية آنذاك عبدالرحيم مراد أعاد تشكيل اللجان بعد سحب 75 ألف نسخة من الأسواق لكتاب أصدرته هذه اللجان، قائلاً أنه لم يطّلع عليه. واستند مراد في هذا الاجراء الى وجود أخطاء"تاريخية"وردت في الكتاب أدت، برأيه، الى المسّ باتفاق الطائف. فيما اعتبر أعضاء اللجنة أن هذا الانجاز كان الأهم بعد اتفاق الطائف لأنه حصل على تأييد كل الفاعليات التربوية، وجاء بعد حوار معمّق وتفاعل خارج جدران المكاتب وبعيداً من القرارات الفوقية وانسجاماً مع المنهجيات العلمية. كتاب التاريخ الموضوع في الأدراج، يشمل عصور ما قبل التاريخ أي من العصور الحجرية وصولاً الى الرومان والعرب ومروراً بالأشوريين والآراميين والكنعانيين. وفي تاريخ لبنان الحديث اعتمدت كتابة تاريخ كلّ المناطق اللبنانية، فيما لم يتم التوسع في عرض تفاصيل الحرب الأهلية وتم الاكتفاء بجرعة كافية منها للطالب في المرحلة المتوسطة. ويعترف مشاركون في لجنة صوغ الكتاب آنذاك"أنه تم اختزال الحرب الأهلية من أجل إبعاد جراح الذاكرة، وإن ظلمنا الحقيقة التاريخية بعض الشيء... بعد تصلّب عودنا، أي بعد جيل أو جيلين يكبر امكان الخروج من الذاكرة الى التاريخ من دون اختزال بل بتوازن بين الوقائع والأحداث". في مدارس لبنان اليوم لا يوجد كتاب موحّد للتاريخ. بعض المدارس يعتمد كتاب"التربية المدنية"أو تاريخ الحضارات، بعد إلغاء كتاب التاريخ من مناهج الامتحانات الرسمية، والبعض الآخر لا يزال متمسكاً بكتاب التاريخ القديم الذي بات يصنّف من"العالم الآخر"، وفي غياب الرقابة الرسمية،"تسلّلت"خلال السنوات الماضية كتب من الولاياتالمتحدة الأميركية وردت فيها عبارات لا تراعي الحساسيات السياسية في لبنان، وتم توقيف التدريس فيها من قبل وزارة التربية. ويقول نبيل خليفة الباحث في الفكر الاستراتيجي"أن كتاب التاريخ موضوع علمي، تجب مقاربته بعيداً من ايديولوجيا القوى السياسية."وعدم توافر هذه المنهجية العلمية في السابق، أدى الى فشل عمل اللجان التي أنشئت لأن المنطق الطائفي لدى السياسيين"، يقول خليفة، كان أقوى من منطق العلم، حيث حاولت كل جماعة أن تفسّر تاريخها على ضوء هويتها وحريتها."الأصل فينيقي أم عربي؟"ليس الخلاف الوحيد بين المؤرخين اللبنانيين، أسباب التباعد التاريخي كثيرة وليس أقلها النظرة الى واقع النزاعات الطائفية، وحروب الآخرين في الداخل، وكلفتها على اللبنانيين. لا يجوز عند كتابة التاريخ، يضيف خليفة، اختزال الطوائف أو الغاؤها بل تجاوزها، والحديث عن انصهار وطني هو مجرد كلام ينافي العلم والواقع، لأن الانصهار ينطبق على المعادن وليس على الاشخاص. نشر في العدد: 16775 ت.م: 09-03-2009 ص: 25 ط: الرياض