الحدث الفني الكبير في روسيا هذه الأيام هو فيلم"الجزيرة المأهولة"للمخرج الروسي فيودور بوندراتشوك الذي أثار ضجة كبرى منذ بدأ عرضه في روسيا أخيراً. وقد قوبل منذ أسبوعه الأول باستحسان واسع من جانب النقاد، وقابلته انتقادات كثيرة أيضاً. "الجزيرة المأهولة"واحد من الأفلام الروسية القليلة التي تصنع بمعايير هوليوودية، هكذا وصفه أحد النقاد موضحاً أن العمل الجديد لبوندراتشوك"من نوعية الأعمال التي تثير ردود فعل متباينة، وليس المهم هنا ايجابية أو سلبية فالأهم أنك لا يمكن أن تقف محايداً أمامه إنه فيلم يثير مشاعرك". رواية"الجزيرة المأهولة"كتبها الأخوان ستروغاتسكي عام 1968، وقد اضطرا الى تغيير في النص الأصلي أكثر من 980 مرة، بناء على طلب الرقابة السوفياتية آنذاك. يعد الأخوان ستروغاتسكي من دعائم أدب الخيال الروسي أو السوفياتي، فالمعروف عنهما أن كل كتاب من مؤلفاتهما يدفع قارئه الى أن يفكر بعمق، وكل بطل عندهما مرسوم بدقة، وكل شخصية معقدة وصعبة. وهذا ما دفع ناقداً روسياً الى أن يكتب مرة أن الكثير من عوالم الأخوين ستروغاتسكي، لا يمكن تحقيقها إلا على الورق. ولكن ثمة أمثلة من الأعمال الناجحة سينمائياً، قد يكون أبرزها فيلم"ستالكر"للمخرج الراحل تاركوفسكي، وفيلم"أيام الكسوف"للمخرج ساكوروف. وكانت المعضلة التي واجهت المخرجين في التعامل مع نصوص الأخوين ستروغاتسكي عادة، صعوبة المحافظة على النص وتحويله الى عمل سينمائي يتمتع بذات الدرجة من القوة، وعمل المخرج بوندراتشوك المنقول عن رواية"الجزيرة المأهولة"ليس استثناء عن هذه القاعدة. تدخل"الجزيرة المأهولة"في سلسلة الأعمال المكرسة لما يسمى"مجموعات البحث الحر"التي كرس لها كتّاب الخيال العلمي جزءاً كبيراً من ابداعاته، والبطل هنا مكسيم ذو العشرين سنة، الذي يتجول في مركبة فضاء، ثم يقع على كوكب ساراكش، نتيجة حادث اصطدام. الأحداث تذكرنا فوراً بالاتحاد السوفياتي، في ثلاثينات القرن الماضي، إنها باختصار تكرار معاصر للفكرة الكلاسيكية القائمة على البحث عن الأعداء داخل المنظومة، والتحسب الدائم للحرب، والتغني بالشعارات الوطنية. والنقلة الأساسية"الهوليودية"التي يقدمها الفيلم الذي خصصت له موازنة ضخمة جداً بالمعايير الروسية زادت عن 35 مليون دولار جعلته أغلى فيلم روسي حتى الآن، ليضيف ميزة أخرى الى كونه الأول في روسيا على هذا المستوى في مجال أفلام الفضاء الخارجي والخيال العلمي. وتتجلى النقلة أيضاً في مشاركة عدد هائل من المؤثرات الخاصة، والأحداث، وفي المزج المدهش بين قصة ذات مضمون جيد وقوي، عن صراع من أجل البقاء في الفضاء الخارجي مع قصة حب خفيفة، لا تعيق جوهر الرواية الرئيسي. واستخدم المخرج أزياء الفيلم مميزة وتمكن من خلق"جو عام مدهش للغاية، يشد المشاهد ويجعله يعيش الحدث بحماس وحيوية". كما قال بنفسه. كوكب ساراكش يظهر العالم ذو المصير المشوّه وكأنه واقع حقيقي، هذا العالم الذي لا مستقبل له، العالم الذي لا يرضى أحد بالعيش فيه. وقد تمكن المخرج بوندراتشوك، أن يعكس هذا كله على الشاشة، باستخدام تجربة السينما التجارية. إذ صمم كوكب ساراكش، الباهر الألوان وهو عالم مستقبلي متنوع، شبيه بعض الشيء بعالم"سجالات ريديكا". ولكن اذا كانت تجربة"تيوخي - Tuohi"، فريدة ومتنوعة بصرياً، فإن هذا الجانب يأتي لدى المخرج بوندراتشوك في حد ذاته، جزءاً من التطبيق العملي. حيث أن البطل في الخيال السوفياتي، يميل الى التحليل والبحث في الذات، كما هو وارد في الفيلم. وكوكب ساراكش مليء بكل شيء من العمران المتطور في أحياء مرسومة بدقة جمالية عالية، الى أماكن مخصصة للأشغال الشاقة، وهناك نرى مخلوقات غير عادية مشوهة وغريبة الأطوار، تعيش في مجتمع تقمعه سلطة طاغية متجبرة، ونعيش حرباً بين شعوب كانت شعباً واحداً ذات يوم. وكان الاختيار لتصميم مواقع التصوير وقع على شبه جزيرة القرم وصُوّر الجزء الأعظم منه هناك، بعد بناء ما يقارب 300 موقع من الديكورات اللازمة، لأماكن التصوير الرئيسة خلق منها المخرج عالم كوكب ساراكش، حيث ستهبط المركبة الفضائية وأيضاً المركبة البيضاء العملاقة، وصنع لوحة كاملة للمناطق المتطورة في القرن الثاني والعشرين، حيث تشكل منطقة صناعية، لتكون مدينة خيالية يقيم فيها المطاردون - غريبو الأشكال. ولقد شارك في هذا العمل مصممون في هوليوود، اضافة الى الروس. يقدم"الجزيرة المأهولة"للمرة الأولى في تاريخ السينما الروسية، لوحة من أفلام"الخيال العلمي". من ابداع فيودور بوندراتشوك، وهو يضع عيناً على الرواية الأصلية وأخرى على ضرورة أن يخرج العمل في شكل ناجح تجارياً وهي معادلة صعبة على كثير من المخرجين الروس المبدعين. لكن الفيلم في طريقه سريعاً نحو تحقيقها فهو حصد أكثر من 21 مليون دولار في فترة قياسية، ويستعد منتجه لعرضه في أوروبا والولايات المتحدة. أما من حيث الممثلين المشاركين فبينهم عدد كبير من نجوم السينما الروسية، ومنهم بوندراتشوك ذاته، الذي يلعب دور المدعي العام فيما يلعب دور الشخصية الرئيسة الممثل فاسيلي ستيبانوف. ومع عرض"الجزيرة المأهولة"كتب أحد النقاد أن"الأمل برز أمام ظهور وتطور سينما الخيال الروسية، فبعد هذا العمل السينمائي، يمكننا أن نصور أفلاماً خيالية على مستوى عالمي، بدلاً من الملاحم التاريخية، كما يمكننا القول وبكل ثقة، أن صناعة السينما الروسية تتطور عاماً بعد عام، لتصبح منافساً قوياً وجاداً للغرب". وعلى عادة أفلام التشويق والخيال العلمي ترك المخرج الباب مفتوحاً لظهور"الجزيرة المأهولة 2"التي يتوقع له أن يخرج بالمستوى نفسه للفيلم المعروض حالياً. نشر في العدد: 16786 ت.م: 20-03-2009 ص: 22 ط: الرياض