يبدو أن هناك ظاهرة جديدة في عالم القانون الدولي اليوم، آلت بأرباب السياسة الدولية إلى استحداث محاكم دولية لمحاكمة من يتّهمون بارتكاب جرائم ضد القوانين الدولية أو حتى الداخلية. من يوغوسلافيا إلى رواندا ومروراً بلبنان وليبيا والسودان، تحظى محاكم الجزاء الدولية بتصدّر الأخبار العالمية، سواء كانت تلك محاكم خاصة أنشئت بقرارات من مجلس الأمن، أم دائمة كالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ولكن ثمة ملاحظة تبدو بارزة للمتأمل في كثرة محاكم الجزاء الدولية. هذه الملاحظة هي إغفالها لمستحقيها الأكثر أهمية! إذ غني عن القول إن جرائم الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان التي تتصاغر أمامها جرائم الأمم جميعاً، أو جرائم إسرائيل التي فاقت جرائم النازيين الألمان، أو حتى جرائم الروس في الشيشان التي لا تكاد تذكر اليوم، كل تلك الجرائم أهم وأولى من تهم لجرائم منسوبة هنا أو هناك من دون التقليل من أهمية أي انتهاك للقانون الدولي. بل إنه حتى في القضايا الداخلية الأقل شأناً، كاستهداف طائرة أميركية، أو اغتيال شخص رفيع المستوى، قد ينتج منه تحرك دولي، يفضي إلى تشكيل محاكم جزاء دولية خاصة، في حين يسدّ العالم عينيه ويصمّ أذنيه عن مثيلاتها في العالمين العربي والإسلامي! ولعل هذه الظاهرة تثير قلقاً بالغاً لدى المتابع القانوني الذي من حقه أن يتساءل: لماذا يهرع العالم إلى إنشاء محكمة جزاء خاصة بقضية لوكربي، في حين لا أحد يجرؤ على مجرد الحديث عن الطائرة المصرية، التي تحطمت بعد إقلاعها بلحظات في مطار نيويورك عام 2001، في الوقت الذي تشير فيه كثير من القرائن إلى تعمد إسقاطها؟ وبينما تبدأ اعمال المحكمة الخاصة بالمتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري، يتغافل العالم عن غزو لبنان وتدميره عام 2006 من قبل القوات الاسرائيلية، وهو الذي ادى الى قتل الآلاف من الأطفال والنساء واستهداف المدنيين، واستخدام الأسلحة المحرمة، وتدمير البنية التحتية في لبنان بالكامل. اما جريمة الإبادة التي ارتكبت بحق المدنيين الصوماليين بشهادة مندوب الاتحاد الأوروبي في كينيا، والتي قام بها المسؤولون الإثيوبيون المدعومون من الولاياتالمتحدة، فلا تقل خطراً في نظر القانون الدولي عن جريمة الإبادة التي اتهم النظام السوداني بارتكابها في دارفور والتي من أجلها يوشك رئيس السودان أن يدخل التاريخ من أغرب أبوابه! لعل النتيجة التي يخلص إليها أي متابع منصف هي أن العالم الغربي ارتضى بتحكيم القانون الدولي في ما ينفعه ولا يضره، ووقف ضده في أية قضية تضره ولا تنفعه! وإذا كان الكثير من المتابعين القانونيين استبشروا عام 1993 حين أقر مجلس الأمن إنشاء محكمة جزاء دولية خاصة بمحاكمة مجرمي الحرب الصرب بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة ارتكبت ضد مسلمي البوسنة والهرسك، والتي نتج عنها مقتل أكثر من 200 ألف مسلم بوسني، إلا أن ما آلت إليه محاكمات مجرمي الحرب الصرب لم تعد تبشّر بخير! فالقرار الذي انتهت إليه محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، يوم الخميس الماضي، والذي برأت فيه الرئيس الصربي السابق ميلان ميلوتينوفيتش من جميع التهم الموجهة إليه، والتي شملت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة، يثير تساؤلات جادة حول حقيقة العدالة الدولية في القضايا التي تتعلق بالمسلمين. يتأكد هذا الشك في هذا الوقت بالذات، خصوصاً أنه يعيد إلى الذاكرة حكم محكمة العدل الدولية التي كانت أصدرت حكم براءة للصرب من ارتكاب"جريمة إبادة"بحق مسلمي البوسنة، على رغم اعترافها بأن"جريمة إبادة"قد ارتكبت! قد يقول البعض إن محكمة جرائم يوغوسلافيا أقرت يوم الخميس الماضي التهم الموجهة إلى نائب الرئيس وجنرالين آخرين، وأصدرت أحكاماً بالسجن تترواح بين 15 و22 عاماً، وفي هذا ما يكفي لإثبات جديتها! ولكن واقع الأمر أن هذه الأحكام لا تبدو متناسبة بما فيه الكفاية مع الجرائم التي أدين بها هؤلاء المجرمون. ولعل من المفيد التذكير أن محكمة إسبانية كانت أصدرت أحكاماً بالسجن لمدة تفوق 40 ألف عام على منفذي تفجيرات مدريد! وبغض النظر عن الفرق في التفاصيل القانونية المعقدة، فإن كل ما يريد رجل الشارع العربي والمسلم معرفته هو لماذا تكون نتيجة المحاكمات قاسية إلى أبعد حدودها حينما يكون المتهم عربياً أو مسلماً، في حين يترك خصومهم يسرحون ويمرحون، أو يبرأون بعد محاكمات شبه شكلية، أو يعطون عقوبات أخف في أسوأ الحالات؟ حقيقة الأمر هي أن حكم القانون الدولي ضاع اليوم بين فساد السياسة ونفاق السياسيين! وتبعاً لذلك، فإنه ما لم تقم الدول العربية والمسلمة بأخذ القانون الدولي بيدها، وإنشاء محاكمها الجزائية الخاصة في دولها لتعقّب المجرمين الإسرائيليين والغربيين على جرائمهم، فإنه لن يكون لنا سند يشفع، ولن تنظر إلينا العين الغربية بعين الشفقة، وإن كنا نحن ضحايا جرائمهم ومجرميهم! من يدري فربما باغتتنا العدالة الدولية بمحكمة جزاء جديدة عما قريب، لمحاسبة"حماس"عن جرائمها في استهداف المدنيين في إسرائيل أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة! * حقوقي دولي نشر في العدد: 16768 ت.م: 02-03-2009 ص: 15 ط: الرياض