الى اليوم، تنشر الولاياتالمتحدة قواتها الحربية في المحيطين الأطلسي والهادئ. وهذه السياسة أملتها مواجهات الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة. وخلفت النظرة الى المراكز الاستراتيجية في العالم اثرها في الخرائط وأعرافها. فشركة"مركيتور"للخرائط تميل الى وضع الغرب في منتصف الخريطة، وتضع المحيط الهندي في نهاية الخريطة. ولكن منطقة المحيط الهندي، وهي ثالث أوسع جسم مائي في العالم، هي مركز تحديات القرن الواحد والعشرين. وهذا ما يُخلص إليه من تفاقم هجمات القراصنة قبالة السواحل الصومالية، ومن مجزرة مومباي، في الخريف الماضي. وتشمل المنطقة الهلال الإسلامي من الصحراء الى الأرخبيل الاندونيسي. ويرى الغرب العرب والفرس أهل صحارى. والحق انهم كانوا بحارة ماهرين في القرون الوسطى. فهم انطلقوا من الجزيرة العربية الى الصين، ونشروا ديانتهم من طريق التجارة البحرية. ويرى الغرب ان المراكز المهمة بالمحيط الهندي بعضها مناطق مضطربة ومصدر مخاطر لا يستهان بها، على غرار الصومال واليمن وإيرانوباكستان. وهي مركز حركة مبادلات نشطة، وشبكة إرهاب عالمي، وبؤرة تجارة المخدرات والقرصنة. ويعيش ملايين المسلمين في شرق المحيط الهندي بالهند وبنغلادش وماليزيا وإندونيسيا. ويهيمن على المحيط الهندي بحر العرب وخليج البنغال. وعلى مقربة من هذا الخليج تقع أكثر دول العالم اضطراباً في العالم، باكستان وميانمار بورما. والحق أن المحيط الهندي هو واقعة جغرافية وفكرة. فهو يجمع مركزية الإسلام الى سياسات الطاقة العالمية. وتنامي قوة الهند وقوة الصين يظهر معالم عالم متعدد الأقطاب. وغالباً ما يغفل المراقبون عن تناول تعزيز هاتين القوتين الصاعدتين والناميتين قوتهما العسكرية، وخصوصاً القوة البحرية التي تضطلع بضمان أمن إمدادات الطاقة. وأغلب الظن أن تقع مسؤولية رعاية بروز هاتين القوتين السلمي على كاهل البحرية الأميركية. ولن تحول هذه الرعاية دون توتر العلاقات بين القوى الثلاث هذه، مع ردم الصينوالهند هوة التفاوت العسكري بين أسطوليهما والأسطول الأميركي. وطوال قرون، فاقت أهمية الطرق البحرية نظيرتها البرية. وذهب أحدهم في نهاية القرن الخامس عشر الى أن من يسيطر على مضيق ملقة يمسك بشريان حياة البندقية، وهي يومها قطب التجارة المتوسطية. واليوم، تتولى الملاحة البحرية 90 في المئة من التجارة العالمية وتنقل 65 في المئة من النفط العالمي. وأسهم يسر نقل المستوعبات، وانخفاض كلفة النقل البحري، في تشريع الأبواب أمام العولمة وانتشارها. ويمر 70 في المئة من المنتجات النفطية، في طريقها من الشرق الأوسط، بالمحيط الهادئ. ومن المتوقع أن تحتل الهند مرتبة رابع أكبر مستهلك طاقة في العالم بعد الولاياتالمتحدةوالصين واليابان. وتسعى الهند الى بسط نفوذها من إيران الى خليج تايلندا. وتميل معدلات التجارة الهندية مع الخليج الفارسي والدول العربية الى النمو نمواً مطرداً. ويعمل نحو 3،5 مليون هندي في ست دول عربية، ويرسلون 4 بلايين دولار الى بلدهم سنوياً. وتستخدم الهندإيران وأفغانستان قاعدة استراتيجية خلفية للتصدي لباكستان. وفي 2005، أبرمت الهندوالصين اتفاقاً قيمته بلايين الدولارات تزود بموجبه إيرانالهند ب7،5 بليون طن من الغاز السائل الطبيعي طوال 25 عاماً بدءاً من 2009. وخطوات التقارب الهندي ? الإيراني على قدم وساق. وتساعد الهندإيران على تطوير مرفأ شاه بهار المطل على خليج عمان. ومن المفترض أن يكون هذا قاعدة البحرية الإيرانية. وتوطد الهند علاقاتها بميانمار، فهي ترمي الى إنشاء شبكة طرق الى الشرق والغرب، ومد أنابيب تربطها بإيرانوباكستان وميانمار. والأسطول البحري الهندي، وعدد سفنه الحربية 155 سفينة، من أكبر الأساطيل العالمية. ودعا شعور الهند بالمهانة جراء عجزها عن ترحيل رعاياها من العراق والكويت، في حرب الخليج الأولى، الهند الى تعزيز قوتها البحرية. وتصطدم مساعي الهند في سبيل بسط نفوذها، في الشرق والغرب الآسيويين بالصين. وهذه تريد حماية مصالحها في المنطقة من طريق الهيمنة جنوباً. ويتناول الخبراء الهنود"معضلة مضيق هرمز"، بينما يتناول كلام الرئيس الصيني"معضلة مضيق ملقة". وتسعى الصين الى تجاوز هذا المضيق، ونقل الطاقة والنفط من مرافئ مطلة على المحيط الهندي بواسطة شبكة أنابيب وطرق الى قلب الصين. ووراء توق الصين الى بسط سيادتها على تايوان السعي الى التخفف من حراسة مضيق تايوان ونقل قواتها البحرية الى المحيط الهندي. وتنتهج الحكومة الصينية استراتيجية"حزام اللؤلؤ"في المحيط الهندي، وهو كناية عن مرافئ في دول صديقة مطلة على شمال المحيط هذا. فهي تبني قاعدة بحرية كبيرة في غوادار الباكستانية، والى مركز تنصت. ويحتمل أن تكون الصين تراقب حركة الملاحة في مضيق هرمز من هذه القاعدة. وتشق الصين طريقاً سريعة تربط مرفأ باسني بباكستان ومرفأ غوادار. وهي تنصب محطة طاقة في جنوب ساحل سريلانكا، ومركز خدمات بحرية وتجارية ضخماً في شيتاغونغ ببنغلادش. وتطور بكين بنية تحتية نفطية وشبكة طرق في ميانمار تربط خليج البنغال بجنوبالصين، في محافظة يونان. وأبنية الخدمات هذه هي أقرب الى المدن التي تقع غرب الصين ووسطها منها الى بكين وشنغهاي. وعلى هذا، فهي تعزز نمو المحافظاتالصينية. وتدرس الحكومة الصينية شق قناة في منطقة اسموس، في كرا التايلاندية، تربط المحيط الهندي بساحل الصين المطل على المحيط الهادئ. وهذا مشروع ضخم يضاهي قناة بناما. وتبعث مساعي الصين مخاوف الهند من تطويق الصين لها. ويرى خبراء صينيون أن الهند هي أكبر منافس استراتيجي تواجهه بلادهم. والحق أن الحدود الموروثة من خريطة الحرب الباردة تتهاوى. وتنحو آسيا الى أن تكون وحدة متكاملة من الشرق الأوسط الى المحيط الهادئ، على ما كانت تاريخياً. ولكن معظم الخبراء الغربيين فاتهم أن الهند هي جزء من الشرق الأوسط الكبير قبل هجمات مومباي، على رغم أن سواحل المحيط الهندي هي امتداد هذه المنطقة تاريخياً. وتواجه الولاياتالمتحدة ثلاثة تحديات استراتيجية كبيرة بآسيا، وهي كابوس الشرق الأوسط الكبير الاستراتيجي، والنزاع على النفوذ على دول الاتحاد السوفياتي السابقة الجنوبية، وتنامي نفوذ الهندوالصين العسكري بالمحيط الهندي. والبحرية الأميركية مدعوة الى دعم قوة الهند البحرية، وهي أبرز حلفائها في المنطقة، وتطويق التوسع الصيني ولجمه، الى اشراك الصين في تحالفات دولية بحرية. فالتعاون الصيني ? الأميركي البحري هو شرط استقرار العالم في القرن الواحد والعشرين. وأغلب الظن أن يفوق حجم القوات البحرية الصينية حجم نظيرها الأميركي. فوتيرة شراء الصين الغواصات وتصنيعها أسرع بخمس مرات من الولاياتالمتحدة. وحازت الصين ألغاماً بحرية وأجهزة تكنولوجية تحول دون رصد الأقمار الاصطناعية الأميركية"جي بي أس"حركة القوات الصينية. ويعزف واضعو الخطط الأميركية العسكرية عن نشر قواعد بلادهم في مناطق مضطربة اتنياً. فعلى سبيل المثال، تراجع الأميركيون عن تشييد قاعدة عسكرية بسريلانكا، وهي منطقة استراتيجية يلتقي عندها بحر العرب وخليج البنغال. فبادر الصينيون الى ذلك. ويلتزم الاستراتيجيون الصينيون والهنود دروس المنظر الأميركي العسكري، ألفرد تاير ماهان، صاحب"اثر القوة البحرية في التاريخ، 1660-1783". وذهب ماهان الى أن القدرة على حماية الأساطيل التجارية هي عامل حاسم في رسم ملامح التاريخ العالمي. * مراسل"أتلانتيك"وباحث في مركز"نيو أميركان سيكيوريتي"، عن"فورين أفيرز"الأميركية، 3-4/2009، إعداد م. ن. نشر في العدد: 16784 ت.م: 18-03-2009 ص: 26 ط: الرياض