فن الفنون بالنسبة الى الكاتب الأميركي أرنست همنغواي، لم يكن لا الرسم ولا الموسيقى ولا السينما، كما ان قمة الإبداع بالنسبة إليه لم تكن لا كتابة الرواية ولا الشعر ولا المسرح. قمة الإبداع والفن بالنسبة الى همنغواي، كما بالنسبة الى بيكاسو، الى حد ما، كانت مصارعة الثيران. وهذه المصارعة كانت ايضاً، في رأي همنغواي، إسبانيا نفسها. كل شيء في إسبانيا يشبه مصارعة الثيران. ولا يمكن أحداً ان يتصور وجوداً لهذه المصارعة خارج إسبانيا. من هنا، حين فكر همنغواي في ان يكتب عن إسبانيا ما ان وصل إليها، ذهب تفكيره مباشرة الى مصارعة الثيران. من هنا، كان طبيعياً له ان يدخل فصولاً ومشاهد من هذه"الرياضة الفنية"كما كان يقول ? في كل نص كتبه عن إسبانيا، سواء كان أدب رحلات أو رواية أو قصة قصيرة، أو مجرد حديث بين اصدقاء. غير ان هذا كله لم يعفه من وضع كتاب، كان أحب كتبه الى نفسه دائماً، كرسه كله لهذه المصارعة وهو كتاب"الموت بعد الظهر". إن كثراً من الذين يقرأون عنوان هذا الكتاب بين عناوين كتبه الأخرى، يعتقدون انه رواية، وفي شكل أكثر تحديداً رواية بوليسية تليق بقلم أغاثا كريستي أو آرثر كونان دويل، لكن الكتاب في الحقيقة اشبه بدليل لهذه الرياضة، فهي تعتبر الأكثر شعبية في إسبانيا وفخراً قومياً، حتى وإن لم يخل الأمر من صرخات احتجاج بين الحين والآخر تطلقها جمعيات الرفق بالحيوان، أو حتى"الرفق بالإنسان"طالما ان الثور ليس وحده الضحية، وفي شكل متواصل. إذ في مرات كثيرة يكون"موت بعد الظهر"هذا، من نصيب الإنسان سواء كان المصارع أو واحداً من مساعديه أو واحداً من الجمهور، غير ان همنغواي لم يجعل لهذه الاستثناءات مكاناً كبيراً في كتابه، بل وضعها في صف خلفي طالما ان فكرته كانت، في الأساس، تقديم كتاب أشبه بأن يكون كتاباً علمياً - سياحياً، بعيداً من العواطف. ومع هذا، على رغم فكرته هذه، تمكن الكاتب هنا من وضع نص كبير، كتب بلغة جزلة وتشويقية، لغة تغوص في اللعبة حتى التمكن من نبش روحها، لتقول كل المشاعر والأحاسيس التي تبعثها في نفس من يشاهدها. بل أكثر من هذا، في نفس من يشارك فيها، تماماً كما لو ان الكاتب عرف كيف يضع نفسه داخل جلد كل واحد من الأشخاص المعنيين, سواء كانوا داخل الحلبة أو خارجها. وهذا يشي طبعاً بأن أرنست همنغواي الذي استنفر دقة بصره وتحليله للعبة تثير دائماً إعجاب الناس ودهشتهم وفضولهم، استنفر الكاتب فيه فغاص أبعد وأعمق مما يتاح عادة للمحلل الموضوعي. ومن هنا ما قيل دائماً إن مصارعة الثيران كانت دائماً في حاجة الى الكاتب الكبير الذي يأتي ليكتب عنها ما لم يكن قد كُتب من قبل. وكان هذا الكاتب، طبعاً، صاحب"الشمس تشرق ثانية"وپ"لمن تقرع الأجراس"وپ"وداعاً للسلاح". منذ البداية يحرص همنغواي، في الكتاب، على ان يشرح لنا الأسباب التي تجعل الناس يحبون مصارعة الثيران، من ناحية، أو يكرهونها من ناحية ثانية، فهي بالنسبة إليه رياضة تفرز الناس وتجعلهم متجابهين، ليس فقط في المراهنة على الثور أو على مصارعه، بل في تقبل الرياضة ورفضها. ذلك النهار ربما تكون الرياضة الوحيدة في العصور الحديثة التي تجعل الموت نهاية منطقية ومقبولة لها، موت الثور طبعاً... ولكن في بعض الأحيان موت المصارع ايضاً، غير ان همنغواي، لا يجب ان يتوقف طويلاً هنا. بالنسبة إليه، هذا الجانب عابر وليس هو المهم، المهم ما يغوص فيه بعد ذلك، ولا سيما حين يبدأ تركيزه على الجوانب التقنية، وهكذا يروح في الفصل التالي شارحاً ? لغير الإسبان طبعاً، طالما انه يعرف ونعرف، أن ما من إسباني في حاجة الى ان يشرح له احد هذه الأمور -، الأكسسوارات والأعتدة المتعلقة بالاستعراض والتي يحتاجها هذا الأخير. كما يشرح لنا أي مكان علينا ان نجلس فيه حول الحلبة حتى"نستمتع"بالمشاهدة أكثر. وهذا ما يمهد له فرصة الحديث عن الثيران، نفسها، من أين تأتي، ما الفوارق بين أصنافها وسلالاتها، كيف تتم تربيتها. ما الذي يجب ان تكون عليه وكيف تحتسب قيمة كل ثور منها. وإذ يشعر همنغواي بأنه أوفى الثيران حقها من الشرح والتفصيل، ينتقل الى الحديث عن المهن الثلاث التي يرصدها المشاهد في الحلبة: البيكادور، الباندربيروس، وأخيراً الماتادور، وهو الأعلى والنجم، أي المصارع، فيما تعتبر المهنتان الأخريان مساعدتين، علماً أن ليس من الضروري، كما ينبهنا همنغواي - ان تكون ثمة تراتبية بين المهن الثلاث تجعل البيكادور بالضرورة، باندربيروس لاحقاً، أو تحول هذا الأخير الى مصارع ماتادور. فلكل من المهن احتياجاتها وتدريباتها ودورها، وإن لم يكن من النادر ان يتحول شخص نبيه ومقدام من مهنة الى أخرى، أو يحط الدهر بمصارع فيصبح من أصحاب المهنتين الأخريين، علماً أن المصارع، حين يتقاعد، غالباً ما يصبح مدرباً لمصارعين جدد. هذا الوصف يفتح امام همنغواي باباً للحديث عن أبرز مصارعي تلك المرحلة وأشهرهم وضع الكاتب هذا النص أول ثلاثينات القرن العشرين ونشره للمرة الأولى عام 1934. ثم راح يتحدث عن اسلوب كل واحد منهم مفصلاً التجديدات التي أتى بها كل واحد، محدداً المعايير التي يمكن الحكم عليها وعلى أدائهم من خلالها. بل انه يتوقف هنا طويلاً، عند بعض الخدع وأساليب الغش التي يلجأ إليها هذا المصارع أو ذاك. ثم يخلص من هذا الى رسم القواعد التي يجب ان تسود، أو تسود فعلاً، على العملية الختامية: عملية إعدام الثور حيث يكون تعب الى اقصى حدود التعب ولم يعد قادراً على المواصلة. أو حتى حين يكون لهيجانه، قد أضحى خطراً حقيقياً محدقاً بالمصارع. والحقيقة ان همنغواي يبدع أكثر ما يبدع، في هذا الجانب من الكتاب، والذي يبدو واضحاً ان لعبة الموت النهائية هي التي تفتنه أكثر من أي شيء آخر في المصارعة. وهذا ما يؤدي به في فعل تال الى رسم كافة الشروط والأوضاع وإلى التوغل في المشهد الأساسي نفسه: مشهد الصراع، حيث يصبح المصارع وحده في مواجهة الثور ويصبح من الواضح للمشاهد انه يعيش الآن تلك اللحظات الختامية التي يصبح الموت بعدها محتماً. وهنا، يجد الكاتب ان الوقت حان لإجراء بعض المقارنات بين المتصارعين، وهو هنا يفاجئنا حين يقول لنا ان ليس ثمة، بعد كل هذا، أي وجود للثور الكامل. فالثور الكامل قاتل بالفطرة، لا يتمكن أي مصارع من النفاذ بجلده منه. ومن هنا ثمة دائماً"عيب"ما، كأن يكون الثور كبير السن، أو عديم الخبرة المسبقة في المصارعة، أو أُنهك طويلاً قبل بدء اللعبة أو جوّع، أو حتى - وهذا يحدث أحياناً بحقن تجعله يخور ويتعب بعد وقت قصير من بدء المباراة... وهكذا. بعد هذا كله، يتوقف أرنست همنغواي في صفحات عدة عند الثور نفسه وأدائه في الحلبة: انه يضع قلمه تحت جلد الثور ويكتب مفسراً حركاته،"افكاره"، نظراته، شعوره تجاه مصارعه. وهنا يبدو الكاتب، مرة أخرى، في قمة إبداعه، حين نراه يوضح لنا، من خلال نظرة الثور، كيف ان هذا يحدث له في مرات عدة ان يفهم بسرعة ان القماشة الحمراء التي يلوّح بها المصارع، إنما هي خدعة لإلهائه عن مكان هجومه الحقيقي: جسد المصارع. وهنا تصبح اللعبة، محاولة متكررة يقوم بها الثور لنسيان القماشة تماماً وتركيز هجومه على ذلك الجسد. ويقول لنا همنغواي هنا، ان مثل هذه الحالات هي التي أسفرت دائماً عن الأحداث الكبرى التي شهدت مصرع بعض كبار نجوم المصارعة على مدى التاريخ، ذلك ان الثور في مثل هذه الحالات تحركه غريزته، بذكاء شديد، فنراه يوحي للمصارع، أنه هاجم على القماشة، لكنه في جزء من الثانية يتحول من دون ان يدرك المصارع ذلك، للهجوم على جسد المصارع الذي يكون قبلاً في وضعية اطمئنان. وهنا تأتي الكارثة! يمتلئ كتاب"الموت بعد الظهر"بمثل هذه التفسيرات، بحيث يبدو في نهاية الأمر كتاب تاريخ ودليلاً عملياً، بل حتى رواية، حيث ان اسلوب همنغواي، جعل من قراءته متعة حتى بالنسبة الى الذين لا يعتبرون من هواة مصارعة الثيران. ولعل في إمكاننا هنا ان نقول ان الصفحات المتوترة والرائعة الكتابة، التي يصف فيها همنغواي اللحظات الحاسمة، قد تبدو هنا نوعاً من التمارين الأولى لصفحات الصراعات في العديد من رواياته الأخرى. ناهيك بأن وصف همنغواي للغة الاستعراض في هذه اللعبة، تجعل الكتاب يبدو في الوقت نفسه اشبه بكتاب نقدي لفن من الفنون. ومن هنا كان منطقياً لواحد من الذين كتبوا عن"الموت بعد الظهر"ان يقول إن هذا الكتاب يعطي قارئه، في الوقت نفسه، رغبة في الذهاب فوراً لمشاهدة مصارعة ثيران، والإحساس بأنه ? أي القارئ سبق له ان شاهد مصارعة ثيران حقيقية حتى وإن لم يكن فعل هذا في حياته. [email protected]